بدا الأمر وكانّه استهتار أو ربما نزوة تستخدم فيها الدولة بوصفها «حيطة قصيرة» يمكن تخطيها من دون جهد وبكل سهولة. في البداية استعانت لجنة تفكيك تمكين نظام الانقاذ لعام 1989 بقانون يستند إلى الوثيقة الدستورية التي كانت بمثابة ميثاق للحلف الذي تبلورت ملامحه بعد سقوط نظام البشير، والمكون من تجمع إعلان الحرية والتغيير واللجنة الأمنية للنظام أو (المدنيين والعسكريين) وهي الوثيقة التي كان يراد لها ان تحكم الفترة الانتقاليّة التي تفضي إلى حكم ديقراطي مدني. وقد حاولت هذه الهيئة «لجنة التفكيك» ان تحقق في أعمال فساد وتجمد حسابات مصرفيّة وتصادر عقارات بشبهة فساد، ويبدو ان الانقلاب كان يقصدها إذ انها مست مصالح خارج سيطرة العسكريين الذين يتحكمون في إدارة شركات عديدة في إطار المؤسسات التابعة للقوات المسلحة والتي قال عنها رئيس الوزراء السابق د. عبدالله حمدوك انها تسيطر على نحو 82 في المئة من الاقتصاد السوداني. لم يكن للانقلابيين ما يتسترون به كذريعة لانقلابهم سوى ان الحاضنة السياسية للسلطة ضيّقة، لذلك يجب ان تتوسع لتضم أطرافا أخرى للحاضنة التي اسموها «4 طويلة» على غرار اسم عصابات سلب ونهب واعتداء نشطت مؤخراً في العاصمة الخرطوم، تسمى «9 طويلة» أما انها من إفرازات الفراغ الأمني المتعمد، أو انها من المخلفات الأخيرة لنظام الانقاذ. أقدمت سلطة البرهان-حميدتي العسكرية التي انقلبت على الوثيقة الدستورية وعدلتها على إبعاد عدد من أعضاء لجنة التمكين وسحبت منهم سلطة القرار وسجنتهم، واعتقلت بعض الذين كانوا جزءا من قيادة لجنة التفكيك وكانوا سيعقبون العسكريين في قيادة مجلس السيادة، وكذلك اعتقلت بعض وزراء حكومة حمدوك ما عدا الذين أتى بهم اتفاق جوبا من عناصر الجبهة الثورية والذين منحتهم نسبة 25 في المئة من مقاعد مجلس الوزراء، كما أزاحت أعضاء مجلس الوزراء الآخرين ومستشاريي رئيس الوزراء وبعض قيادات الخدمة المدنية. التمرن على الانقلاب هناك من يقول، وهناك سند لما يقوله، ان عمليّة فض الاعتصام كانت هي الانقلاب الأول لإزالة ذلك التمترس الثوري أمام مبنى القيادة العسكريّة وفي قلب الخرطوم، وان انقلاب 25 تشرين الأول/اكتوبر هو الانقلاب الثاني. وبذلك تكون عودة حمدوك ثم استقالته هي الفصل الثالث من هذا المسلسل المأساوي الدموي الفادح. يبدو انه كان هناك شعور لدى الانقلابيين بان رئيس الوزراء عبدالله حمدوك قد حقق لهم مكاسب عبر اتفاقاته مع المجتمع الدولي، لكنهم لم يكونوا واثقين من استدامة هذه المنافع لذلك عملوا على عودته إلى منصبه ووقعوا معه اتفاقا سياسيا في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2021 فشرع حمدوك في إعادة بعض عناصر طاقمه من الذين تعرضوا للفصل خلال غيبته، وساهم في إطلاق سراح المعتقلين منهم، لكن بقاءه في موقعه لم يستمر طويلاً. وبعد استقالة حمدوك امتدت عمليات الفصل والإبعاد لتشمل بعض قيادات الخدمة المدنيّة مثل مدير عام وزارة التنمية الاجتماعيّة ومفوض العمل الطوعي والإنساني وأمين عام الحكومة وبعض قيادات الخدمة المدنية في الولايات. الانتقال إلى فضاء انقلابي عريض بعد ان تمرّن البرهان قليلاً على هذا المستوى في تلك الساحة انطلق إلى مستويات أخرى غير آبه بما يتعلق بتعقيدات سلوكه السياسي، فشرع في محاولة التصدي للمقاومة الشعبية المتصاعدة بزخمها الشبابي والتي تتجه لمعانقة ذكرى 6 نيسان/إبريل (ذكرى انتفاضة أخرى عام 1985). ظلت التظاهرات تتصاعد ووصل عدد قتلاها 92 شهيداّ معظمهم تحت سن الثلاثين، وبرزت لجان المقاومة بجداول نشاطاتها النضاليّة وابتكاراتها المتجددة. المعركة ضد الحداثة: محاولة السيطرة على الجامعات في محاولة لاستباق ذكرى 6 نيسان/إبريل، التي انهت حكم الجنرال جعفر نميري، أقدم البرهان ورهطه على شن معركة ضخمة ضد دور العلم السودانية (أساتذة الجامعات وطلابها) فأصدر القرار 157 لعام 2022 الذي حل بموجبه «مجالس الجامعات الحكوميّة استنادا إلى المادة 47 من الوثيقة الدستوريّة لسنة 2019 التي تحكم المرحلة الانتقاليّة». الغريب ان المادة 47 من الوثيقة الدستورية لا تتعلق بموضوع مجالس الجامعات لا من قريب ولا من بعيد فهي تنص على الآتي: (1) يحظر الرق والإتجار بالبشر بجميع أشكاله ولا يجوز استرقاق أحد أو إخضاعه للسخرة. (2) لا يجوز إرغام أحد على أداء عمل قسرا إلّا كعقوبة تترتب على الإدانة بواسطة محكمة مختصة. يبدو ان البرهان لم يكلّف نفسه عناء التحقق من وجود تلك المادة في نص الوثيقة الدستورية. فقد علمت من عميد كلية القانون المستقيل محمد عبدالسلام الازيرق ان المادة المعنيّة هي 74 وليست 47، ما يدفع المرء للتساؤل حول أهليّة البرهان للحكم إذا كان غير معني بمراجعة مسألة على هذا المستوى من الأهمية من حيث تبعاتها؛ ولقد تحققت فعلا من ان البرهان لم يراجع المادة قبل اتخاذ قرار حل مجالس الجامعات. وهذا يعيدنا إلى نص استقالة عميد كلية القانون لنرى مدى دقة سنده القانوني. تقول استقالة العميد: «بهذا أتقدّم لكم باستقالتي من منصب عميد كليّة القانون إلتزاما بقرارات مجلس العمداء في اجتماعه المنعقد بتاريخ 31 اذار/مارس 2022 رفضاً لقرارات مجلس السيادة الانتقالي بتاريخ 29 اذار/مارس 2022 بحل مجلس الجامعات وإعفاء وتعيين مدراء الجامعات الحكوميّة في مخالفة بيّنة للقانون وتجاوز الاختصاص وإساءة استخدام السلطة وانتهاك واضح وصريح لمبدأ استقلال الجامعات ومراكز البحث العلمي الذي كفلته المادة 63 من الوثيقة الدستوريّة الحاكمة للفترة الانتقاليّة». بلغ عدد من تقدموا باستقالاتهم حتى الآن من القيادات الإدارية لجامعة الخرطوم من عمداء وغيرهم 44 شخصا؛ وكان اجتماع مجلس عمداء جامعة الخرطوم قد ناقش يوم الخميس 31 اذار/مارس الماضي «قرار رئيس مجلس السيادة الانقلابي بحل مجالس الجامعات الحكوميّة وإعفاء مديري الجامعات ونوابهم وتعيين آخرين، هو تعد سافر على مبدأ سيادة حكم القانون، وإحكام الوثيقة الدستوريّة للفترة الانتقاليّة التي زعمت السلطة الانقلابيّة في بيانها الانقلابي تمسكها بها حاكماً لما أسمته بالمتبقي من الفترة الانتقاليّة». وأعلن مجلس العمداء «رفضه القاطع للتدخل في شؤون الجامعات وإدارتها من قبل السلطة الانقلابيّة. وقرر أعضاء المجلس إتخاذ كافة الخطوات التصعيديّة داخليّاُ وخارجيّاً لمناهضة القرارات. واعترض أعضاء المجلس على تعيين مدير ونائب مدير لجامعة الخرطوم من السلطة الانقلابيّة في خرق واضح للوثيقة الدستوريّة، وأجمع أعضاء المجلس على مناهضة قرارات السلطة الانقلابية قانونيّاً، وتقديم طعن أمام المحاكم؛ وشدّد العمداء على تمسّكهم باستقلاليّة الجامعة وأعلن أعضاء المجلس تقديم استقالاتهم من مناصبهم الإداريّة». اضراب مفتوح بالطبع هناك اضراب مفتوح من جانب الهيئة النقابية لأساتذة جامعة الخرطوم منذ يوم 26 كانون الأول/ديسمبر 2021 لكن الهيئة النقابية لأساتذة جامعة الخرطوم أعلنت يوم 10 نيسان/ابريل الجاري عن تأكيدها «الرافض للمساس باستقلاليّة الجامعة» كما تنادي بضرورة انتخاب إدارة الجامعة واستمرار الاضراب عن كافة النشاطات الأكاديميّة واجتماعات مجالس الكليّات حتى تحقيق المطالب التي قام الاضراب من أجلها. جامعة الزعيم الأزهري لم يكن موقف هيئات أساتذة جامعة الخرطوم حكرا على هيئات الجامعة وحدها، فقد ناقش مجلس عمداء جامعة الزعيم الأزهري قرار مجلس السيادة الانقلابي وأعلن عقب اجتماعه يوم 3 نيسان/إبريل الجاري في بيان «تناول قرار مجلس السيادي الانقلابي بحل مجالس الجامعات الحكوميّة وإعفاء مدرائها ونوابهم وتعيين مدراء ونواب مدراء جدد، اعتبار التعيين غير دستوري، ويشكّل خرقاً سافراً للوثيقة الدستوريّة وتجاوزاً لمكتسبات ثورة ديسمبر المجيدة» كما أعلن المجلس تمسكه بالآتي: 1- ان يتم اختيار مدراء الجامعات ونوابهم بالانتخاب الحر المباشر، وليس عن طريق التعيين من السلطة التنفيذيّة. 2- ان يتم اختيار مدراء الجامعات ونوابهم ورؤساء الأقسام بالانتخاب من كلياتهم. 3- ان تتمتع الجامعات بالاستقلال الإداري والمالي بدون تدخّل الدولة في شؤونها الداخليّة. كما تمخض الاجتماع عن إعلان العمداء ونوابهم ومديري الإدارات ورؤساء الأقسام عن تقديم استقالات جماعيّة من المناصب الإداريّة في الجامعة تعبيرا عن رفضهم القاطع للقرارات التي أصدرها قائد السلطة الانقلابيّة يوم 29 اذار/مارس الماضي. وعلى هذا النحو مضت أيضا جامعة الجزيرة وغيرها من الجامعات الحكوميّة. ونختتم القول بما جاء في كتاب عطا البطحاني، «التعثر الديمقراطي» أنه يبدو «مما جرى أن سمات إخفاق المراحل الانتقالية السابقة تتكرر بصورة أو أخرى في ظل الشراكة بين المدنيين والعسكريين» وأن من أبرز سمات إخفاق المرحلة الانتقالية هي «نقض العهود والمواثيق وعدم مراعاة ما تنص عليه التزامات وعهود، والارتكاز على سلطة الأمر الواقع القائمة على سلطة اقتصادية مالية مدعومة من الخارج لا تتردد في هندسة التوترات والاستثمار في النزاعات وتعطيل الإصلاح الاقتصادي والمؤسسي للدولة، مع تغذية السيولة السياسية والأمنية».