العربة تمثل الوعاء المحتوي على العناصر والعوامل الحيوية، قوةً كامنة تفعِّل التغيير وتطور المجتمع، والحصان يمثل قوة الدفع وديناميكية الحركة والقيادة والتوجه الى الامام .. وهذان باختصار رمزان يمثلان جزءا حيويا من عناصر نهضة الأمم .. والدولة السودانية يا للعجب بالرغم من مظاهر التخلف والتشظي والتدمير تمتلك وسائل للنهضة من موارد طبيعية وبشرية متنوعة لا تتمتع بجزء ضئيل منها كثير من الأمم .. اذن ما المشكلة؟ المشكلة تكمن في عدم بروز قيادة من نسيج المجتمع تنتمي اليه بصدق وإخلاص وتمتلك الرؤية والقدرة والإرادة والنزاهة الأخلاقية لتحريك تلك الإمكانات الهامدة وتحويلها الى عناصر موجبة تفجر تلك الطاقات الكامنة وتبثها في واقع الحياة حتى يحدث التفاعل والتغيير .. وهذا ما حدث بالضبط في أمم واجهت نفس المشكلة السودانية مثل ماليزيا ورواندا والآن هما في مصاف الدول المتقدمة.. كيف تغلبت تلك الدول على الازمات؟ إنه بالقيادة والإدارة الراشدة .. وكلاهما اهتم بالوصفة السحرية المتمثلة في إقامة نظام تعليمي صارم لإعداد الكوادر البشرية القادرة على تنفيذ برامج التنمية الطموحة .. غير ان بلاد السودان ابتليت بالأنظمة الشمولية التي ترى الحلول من خلال رؤيتها الايديولوجية الأحادية الفرعونية : "مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ" (غافر- 29) .. وأول ما تفعل الأنظمة الشمولية متوهمة ان ذلك يحافظ على بقائها هو التخلص من "الحصان" والاحتفاظ ب "العربة" !! ويتم ذلك إما بذبح الحصان أو تسريحه فتضطره الظروف الى المنافي والمهاجر حيث تحتضنه دول ومؤسسات لم تدفع جهدا او مالا في تعليميه وتدريبه مهنيا .. الأمثلة كثيرة للخبرات التي تم تشريدها وكان مرجوا منها ان تساهم في بناء الوطن .. وتقول احدى الاحصائيات ان نظام الإنقاذ على سبيل المثال تخلص من ما يقارب من ال 700 ألف موظف وخبير من أطباء ومهندسين وأساتذة جامعات ومعلمين وعمال مهرة لتتلقفهم الدول الأخرى .. ومن سخرية القدر ان ذلك يتم تحت شعار صياغة المجتمع وإقامة مجتمع الكفاية والعدل والتنمية .. وهكذا تستمر الانظمة الشمولية في هدر الإمكانات وتهجير العقول لإفساح المجال لأهل الولاء والطاعة غير المؤهلين .. وتقول الأرقام الإحصائية مثلا إن هناك 20 ألف طبيب سوداني خارج البلاد خمسة آلاف منهم في أيرلندا وحدها .. وبقية الأطباء السودانيين في الخارج موزعين على دول الخليج العربية والمملكة المتحدة. ويشهد السودان ظاهرة نزوح الكوادر الطبية نحو الخارج بسبب البيئة الطاردة في القطاع الصحي السوداني، مثل تدني الرواتب إلى ما معدله 100 دولار أميركي شهريا، وانعدام التدريب. وتفيد أرقام رسمية في الخرطوم بأن حوالي 3 آلاف طبيب سوداني يهاجرون سنويا من البلاد. وقد شمل التهجير والطرد جميع المهن الا ان الحقل الطبي كان له الاثر الفادح في بلد ما زال في حاجة ماسة الى نظام صحي مدعوم بالكوادر المهنية المدربة .. هكذا تفتقت عبقرية العقلية الدكتاتورية ووجدت الوصفة السحرية للتنمية وتطوير البلاد عن طريق ذبح الحصان والاحتفاظ بالعربة.. هذه باختصار شديد الأسباب والعوامل التي أدت الى هذا الوضع الراهن من انهيار في كل المجالات في بلد حباه الله تعالى بكل ما من شأنه أن يجعله في مصاف الدول المتقدمة.. والآن تعم البلاد ثورة الوعي الشبابية تطالب بالحكم المدني الديمقراطي واحداث التغيير بكنس سيناريوهات الماضي البغيضة والاستفادة من كل الطاقات في سياق شعارات الثورة المتمثلة في الحرية والسلام والعدالة .. هل فُهم الدرس أم ما زال هناك من يؤمن بأنه هو وحده وليس غيره "القائد الملهم" الذي في يده "إنقاذ" البلاد من أزمتها ؟.