قرأت فى الأخبار أن المطرب النوبى عباس عثمان حظر الفنانين الشباب من ترديد أعماله بدعوى الملكية الفكرية، تصورت أن تكون لهذا الفنان الذى اثرى وجداننا بغنائه العذب لسنين حساسية أكبر تجاه لغته المهددة بالموات، ولكن خاب ظنى !! فلو كنت مكانه لاقتطعت من قوت الأولاد ومنحت من يرددون غنائي الجوائز !! ما فعله الفنان عباس يضطرنا لإجراء مقارنة بين موقفه وموقف العملاق الراحل محمد وردى أعظم صوت غنائى مر علينا، وذلك عندما أكد فى مقدمة (صواردن شو) أن إحياء اللسان النوبى كان من بين الأسباب الرئيسية التى دفعته لكتابة ملحمته التاريخية تلك. إن العالم من حولنا يولي اهتماما بحماية الحيوانات المنقرضة ولا يعبأ باللغات المهددة بالاختفاء. وما حكَّ جلدكَ مثلُ ظفركَ فَتَوَلَّ أنْتَ جَميعَ أمركْ. ولذلك تقع مسئولية حماية اللغة النوبية على الأفراد والمجتمع معا، فهناك ثمة تدابير قوية يقول علماء اللغات إنه يجب استخدامها وعلى رأسها إنشاء الموارد المطبوعة والمسجلة كأمر بالغ الأهمية لحفظ اللغة. ومن هنا يأتي دور الموسيقى والغناء والشعر كأدوات فعالة ليس فى حفظ اللغات فحسب بل فى تشجيعها الآخرين على تعلم تلك اللغات. وعلى الرغم من استطالة أمد الترويج للحرف النوبى الذى بدأ فى أواخر التسعينات لا يوجد هناك للأسف نهج مهنى جاد لتكريسه فى مجال التعليم الابتدائي على الأقل، ناهيك عن مخاطبة أهم تحدٍ يواجه اللغة النوبية وفاعليتها متمثلا فى اكتساب متحدثين جدد بها. يخطىء الأستاذ عباس عثمان لو ظن أن موسيقاه وأغنياته لا تلهم حتى الأطفال والرضع من أبناء النوبة .. فتلميذ فى بدء تعليمه فى مدرسة إرو الابتدائية حتى لو كان من غير الناطقين بها يمكنه تذكر كلمات جديدة من غناء عباس لأن الموسيقى تساعد على الحفظ وبالتالى يستفيد الجميع من مزايا الاستماع لإبداعه. وحسب علماء اللسانيات والموسيقى فان الامر ليس مجرد إعادة إنتاج الصوت والنغمة بل هو أمر إثراء لمفرداتنا وإلهام للاجيال الجديدة عن طريق اللغة والموسيقى والثقافة ..وبسبب ترديده غناء عباس قد يكون طفل مدرسة إرو أكثر استعدادا لإجادة اللغة النوبية بصورة أكبر من استعداده لتعلم الأبجدية العربية ومعرفة باء بنت وساء سمك. وربما تصيغ له أغنيات عباس أسلوبه فى الحياة. فلو عززنا رغبتنا فى حفظ لغتنا عن طريق الفن سيكون المردود أعظم، يمكنك أن توزع آلاف الكتب والصور والمطبوعات والأفلام وتنتظر بفارغ الصبر مفعولها، بينما الأغنية يمكنها أن تقول كل شىء وفى لحظات، وقد قرأت مرة لعالم أنثروبولوجيا كندي قوله إن هناك لغات عديدة تستخدم بشكل كبير فى الأغاني فقط دون أن يتم التحدث بها فى الحياة اليومية. فما بال عباس يريد أن يبدد سحر أغنياته وقوة موسيقاه !! لقد تمنيت أن يدفع عباس الشباب الذى يشعر بالفخر بثقافته النوبية ويستمتع بغنائه لاستغلال تطور التكنولوجيا عن طريق استخدام وسائل التواصل الاجتماعى لترجمة إعماله وإبرازها بثوب قشيب يجذب أطفال النوبة فى الشتات لتعلم لغة آبائهم وأجدادهم وأن يقود شباب الانترنيت للترويج لمشروع الكتابة بالحرف النوبى وأن يتقدم الصفوف من أجل إعلان النوبية لغة رسمية فى المرافق الحكومية فى المنطقة ناهيك عن التدريس بها فى الابتدائي مثلاً، وأكثر من ذلك أن يشجع كل من يتغنى بأعماله وأعمال غيره حتى ولو دعا الأمر إقامة (Nubian Idol). لا يخالجنى شك أن الفنان الكبير يدرك أن اللغة النوبية هى الأداة الأساسية التى أوصلت تاريخ النوبيين الثقافى الثري وفولكلورهم وأغانيهم وأشعارهم إليه وجعلت منه شاعرا مجيدا ومغنيا بارعا وأنها تمثل الخصوصية والتفرد التى تتميز بهما. بل إن هناك الآن انتشارا للغناء النوبي عبر مغنين من غير الناطقين بها من داخل السودان وخارجه، ويحاولون إبراز جمالياته. فهل يرضي فنان أن يقوم بحرمان أحفاده الذين يأتون من صلبه من الشعور بالفخر بالثقافة النوبية، وحرمان كل من يجد في الغناء النوبي قاسماً إنسانيًا للحوار الثقافي – الحضاري. تكون الثقافة أكثر عرضة للاختفاء الوشيك اذا ما تضعضعت لغتها وفقدت حيويتها ،فما لم تتم صيانة اللغة ستموت الثقافة النوبية بسرعة وتضيع مع مرور الوقت. وموت اللغة يشكل خطرا ماحقا على ثقافة المرء!! إن موقف الفنان عباس الأخير يثير مسألة الهوية والاغتراب فى وضع يخيم عليه التحجيم المؤسسى للهوية النوبية وإشاعة مفاهيم تعتقد أن لا فائدة من التحدث باللغة النوبية مادام مفروضا على المرء النوبي أن يتحدث بالعربية حتى لو تقدم لوظيفة فى جمهورية السودان، وأذكر أن مدرسي دلقو الابتدائية فى زمننا كانوا يقولون للتلميذ – الذى يقوده حظه العاثر لكى يكون آخر من يحمل كرت العربي – وهم يشيرون باتجاه جبل دلقو الأسمر الداكن: مجرد أن تتجاوز الجبل وتصل أبو حمد لن تنفعك لغتك النوبية بتعريفة!! الواقع أنه توجد فى العالم نحو 7 الاف لغة، تعد 40% منها مهددة بالفناء .. وفي كل يوم تتضاعف مخاوف الذين يتحدثون بلغات السكان الأصليين، فالمخاطر تحدق بهذه اللغات من كل حدب وصوب، إذ إنه بخلاف اللغات المفروضة على بعض البشر قسرا هناك العولمة والانترنيت الذى يفرض التعامل بلغات بعينها، حتى إن الفرنسيين أنفسهم تخوفوا من سطوة الإنجليزية على لغتهم ودخولها في قاموسهم. نقول للأستاذ عباس إنه ليس للغة النوبية جيش يحميها، فدوركم فى تنشيط تلك اللغة من خلال الموسيقى والغناء محورى فى عملية الحفاظ عليها. عشمنا أن تلغي قرار حظر المغنين الشباب من ترديد أعمالك خاصة أن طموحنا لا حد له فى إمكانية تسخير مواهبكم لإثراء الجهود من أجل تعزيز اللغة النوبية عبر الأناشيد وكتب المطالعة وشرح أساسيات قواعد اللغة النوبية على سبيل المثال من خلال شعركم، وغنائكم المميزين!! نقول للأستاذ عباس إن التقدير الذى تجده من شعب النوبة الآن يمكنكم أن تجدوا أضعافه من الأجيال القادمة لو أن غنائكم صار مرددا على لسان كل المبدعين من الجيل النوبي.