قبل ما يزيد على العشرة أعوام، وحينما كان الشعب الليبي يخرج في تظاهرات سلمية مطالباً العقيد القذافي بالتنحي عن السلطة والشروع في عملية سياسية تؤدي لفتح الفضاء العام وإشاعة الحريات العامة وإرجاع السلطة للشعب، اقترح العقيد القذافي لمساعديه أنه يرغب في الخروج مع الجماهير للمطالبة بتنحيه عن السلطة وإرساء دعائم حكم ديمقراطي. وللذكرى، فقد قتل العقيد القذافي في يوم 20 أكتوبر 2011 في مجرى صرف صحي بمدينة سرت بواسطة الثوار الليبيين الذين تسلحوا لاحقاً. ذلك القول بدا عبثياً في بادئ الأمر وصار سبباً للتندر لاحقاً، إلا أن هنالك حقائق علمية عن ما تفعله السلطة والتسلط بنفسية المتسلطين والشموليين. كتابات جورج أوريل في كتابيه (مملكة الحيوان) و(1984) عن ال Big Brother ليست محض تفكيك لبنية الشمولية والدكتاتورية فحسب، بل أيضاً لإيضاح أن الشمولية في مراحل تطورها تجرد حتى القائمين على أمرها من قدرتهم على الفعل، ومن تذكر أن أفعالهم لها علاقة ببنية النظام الشمولي الذي من صنيعهم. بلغة السياسة اليومية، الشمولية تجرد عرَّابيها من القدرة على الفعل والتأثير أو ما يعرف بال Political Agency، وتجعل الذين في يدهم السلطة يعتقدون أنهم لا يمتلكون منها شيئاً في حالة التماهي المطلقة مع منطق الشمولية الذي ينسب أفعال الشمولية من قتل وسحل وانتهاكات للمجهول كوسيلة مستطبنة للتهرب من كافة أشكال المسؤوليات السياسية والأخلاقية والقانونية. قبل أسابيع أطل علينا الفريق أول عبد الفتاح البرهان في شاشة التلفاز في احتفال لافتتاح أسواق بأم درمان، وحين انقطع التيار الكهربائي أثناء إلقاء خطابه ما كان من سعادته إلا أن علق قائلاً: "لو قطعتوا رقابنا مش تقطعوا الكهرباء". وتناسى الفريق أنه ذات الرجل الذي تحدث عن بؤس الحال وسوء المآل إذا ما لم يتدخل بانقلابه لوقف انهيار البلاد، بما في ذلك من تردي خدمات وتدهور أمني. وسرعان ما بدأت حملات الأجهزة الأمنية لتبرير انقطاع الكهرباء بحجة سيطرة الشيوعيين (الغول أو العنقاء إن شئت) على قطاع الكهرباء، وكم هو مضحك مثل هذا الهراء في بلد لم يبق في وجه كرامتها مزعة لحم للفكاهة. البرهان – حميدتي البارحة أطلق الفريق أول محمد حمدان دقلو تصريحاً ل BBC أقر فيه بانهيار البلاد اقتصادياً، وقبلها بأيام كان قد تحدث عن تخريب مجموعات أمنية لاقتصاد البلاد. ولولا أن الفريق دقلو هو الرجل الثاني في الدولة بحكم عرف السياسة السودانية في أبهى تجلياته العبثية التي توزع هذه المناصب دون أي صيغة دستورية، فنحن لم نعد ندري إن كان هنالك مجلس سيادة من العسكريين فقط أم لا!! وما إذا كانت الوثيقة الدستورية لعام 2019 هي المرجعية الدستورية لحكم البلاد!! بل إن الفريق دقلو ربما يكون الرجل الأول في الدولة بوضع اليد ومنطق القوة والمغالبة والوعيد. المحير في أمر هذه التصريحات أنها تصدر من مسؤول حكومي المنوط به القيام بأمر السلطة من مباشرة ومتابعة وحشد المقدرات لجهاز الدولة المتهالك ليقوم بدوره في وقف الانهيار ووقف النهب المنظم للموارد، التعليق على غرابته لكنه يصدر وكأنه آت من معلق رياضي ليس له علاقة بالتنافس على الموارد والمشاركة الفعالة في عمليات الاستغلال المنظم لجهاز السلطة لبناء إمبراطورية مالية تعشم ليس فقط في ابتلاع المؤسسات الأمنية وحسب، بل تعمل على ابتلاع الدولة السودانية ككل وإعادة هندستها اجتماعياً. أقوال وأفعال الجنرالين تشير إلى حقائق موضوعية مخيفة ومربكة، أولها: حديث كليهما يأتي وكأنه تعليق لخبير استراتيجي من الذين تم استحداثهم في أعقاب انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر، أو كأنه حديث لمعلق رياضي وليس لفاعل في الملعب ومشارك في صناعة خطة اللعب وتنفيذها بما في ذلك التذاكي على الناس حين فشلت الخطة بادعاء أنه ليس بيده شيء لفعله. ثانيها: أن منطق الشمولية وطرق اشتغالها قد أوصلت الرجلين إلى حقيقة مفادها أنهما ينسبان كل ما يحدث في هذه البلاد من قتل وسحل وقهر ودمار وخراب للمجهول، لأن طريقة الشمولية المفضلة هي تغييب الحقائق ونشر الأكاذيب وإخفاء آثار الجرائم كأفضل الطرق لتجنب المحاسبة القانونية والسياسية والأخلاقية. في مجال المنظمات وصناعة القرارات تسمى هذه الحيل بال Illusive They ويقصد بها "هؤلاء غير المعرَّفين"، وتحدث عندما يقوم الناس بنسب القرارات لجهات عامة غير معرَّفة لتفادي تحمل أي مسؤولية. ثالث هذه الحقائق وأهمها: تأتي كتأكيد على حجة أقمناها منذ مدة مفادها أن الدولة السودانية مختطفة بواسطة مؤسسات أمنية هي بدورها مختطفة، تعمل هذه المؤسسات على اكتساب شرعية سياسية ومقبولية اجتماعية وصيغة قانونية لتصريف أعمالها محلياً ودولياً للضرورة، إلا أن هذه المؤسسات هي واجهات لعمل كارتيلات منظمة تعمل بشكل أكثر تعقيداً من عمل عصابات الجرائم المنظمة. هذا لا يعني أن كل من يعمل في هذه المؤسسات فاسد ومنتفع وغير وطني، بل البعض غير الملم بالتفاصيل ربما يعتقد أن هذه الأفعال هي قمة الوطنية، هذه الحجة أكدتها تقارير لاحقة عن قطاع الذهب من جهات عدة منها تقرير نشر في صحيفة القارديان البريطانية وآخر في النيويورك تايمز وأخيراً تقرير ال CNN الذي لم يأت بجديد. الدلالات الأكثر تعقيداً لهذه الحقائق أن التحليل التبسيطي (الخطي) الذي ينطلق من موقع العقل الأخلاقي الذي يصنف الأشياء إلى خير وشر لن يكون مفيداً في فهم وتفكيك ظاهرة ذات أبعاد معقدة، يتداخل فيها السياسي والاقتصادي والاجتماعي المحلي مع صراع المصالح الإقليمية والدولية في واقع أصبح جيوبليتيكياً لا يمكن تفسيره بمنطق المع والضد، وتعج الأسافير بمثل هذه الكتابات فقط لأنها تتماشى مع الطبيعة الإنسانية التي تبحث عن حق ثوري لتناصره وباطل ما لتصب عليه جام الغضب دون امتلاك أدوات تمكن من الفهم العميق لمكونات هذا الباطل وتشابكات مصالحه. المقصود هنا أن الخروج من وضعية اختطاف الدولة واستردادها لمصلحة جموع السودانيين لا يمكن أن تحدث بخطاب الإدانات والشتائم والهتاف، بل بتبني مدخل منهجي متعدد الأدوات يضاهي في مستوى تعقيده هذه تناقضات هذه الشبكات. خلاصة القول، إن تصريحات الرجلين الأكثر نفوذاً في السلطة الانقلابية لا تشير فقط إلى الحقائق التي أشرنا إليها سابقاً، بل إلى ما هو أدهى وأمر، أي إن هذه السلطة لم تعد تتمركز أو تتمظهر في مكان ما أو في كيان بعينه أو في أيدي أفراد محددين، بل هذه السلطة تتلاشى وبعضها ملقى في قارعة الطريق نتيجة لتضارب المصالح وحالة توازن الضعف في معسكر الانقلابيين التي كتبنا عنها كثيراً في السابق، وعليه لن يكون من المستغرب أن نسمع بموكب للفريق البرهان أو الفريق دقلو للتنديد بالانقلاب أو التصريح برغبتهم في مشاركة الثوار في موكب استرداد السلطة، وإلا لما لا يفعل الرجلان ما بوسعهما لوقف انقطاع الكهرباء وانهيار الاقتصاد وتدهور الأمن ووقف الموت وتلافي شبح المجاعة القادم؟! الديمقراطي