اطلعت مؤخرا على القرار الصادر من المحكمة العليا فى قضية مقتل الشهيد الاستاذ أحمد الخير والقاضى ، بالأغلبية برفض طلبات المراجعة المقدمة من المتهمين. وكما هو معلوم فقد ادانت محكمة جنائية بعض الضباط والأفراد بجهاز الامن والمخابرات الوطنى وقضت باعدام حوالى 27 متهما شنقا حتى الموت لثبوت قيامهم بتعذيب وضرب الشهيد حتى أدى ذلك الى وفاته. وقضت المحكمة بمعاقبة اخرين بالسجن لمدد متفاوتة وبرأت اخرين من التهم المنسوبة اليهم. جاء فى ملخص الوقائع أنه بتاريخ 31-1-2019 خرجت مظاهرة ليلية بمدينة خشم القربة وتدخل جهاز الأمن والمخابرات الوطنى لتفريقها وتتبع من يشتبه فيهم بأنهم وراء هذه المظاهرة وقام باعتقالهم ووضعهم فى بوكس دبل كابين أبيض ، وكان من بين المعتقلين الاستاذ الشهيد أحمد الخير الذى ضربوه ورفعوه فى البوكس وأوسعوه ضربا وهو فى داخل البوكس، واستمروا فى ضربه حتى وصلوا به لمبانى جهاز الأمن بخشم القربة. ثم قام أفراد جهاز الأمن بانزال الشهيد من البوكس وأدخلوه الحراسة وهو فى حالة اعياء شديد من أثر الضرب. وذكر أحد شهود الاتهام الذى تم اعتقاله لاحقا، أنه شاهد الشهيد ممددا على الارض وأياديه ممدودة بعيدة عن جسمه وسلم عليه لكنه لم يرد عليه السلام . وأكد شهود أخرون أن الشهيد كان (تعبان منذ دخوله الحراسة وما كان متفاعل ومشارك مع المعتقلين بسبب ما لحقه من أذى ، وكان ممسكا ببطنه من الألم) . وبعد صلاة الجمعة جاءت قوة من كسلا بقيادة المتهم الثانى والمتهم الثالث وصدرت التعليمات بخروج المتهمين (المعتقلين) من الحراسة ، وعند خروجهم وجدوا القوة التابعة لكسلا مشكلة نظام دائرة ، وبناء على التعليمات الصادرة من المتهم الاول للمتهم الثانى والثالث (بتسخين) المعتقلين بدأت القوة التابعة لجهاز الامن والمخابرات الوطنى كسلا بضرب المعتقلين بالخراطيش الخضراء والركل بالاقدام مصحوبا بالشتم والتهديد والاساءات البذيئة وأثناء الضرب يتم استجواب المعتقلين. وبعد صلاة المغرب صدرت التعليمات بترحيل المعتقلين الى كسلا ، وكان المرحوم فى حالة يرثى لها ، لم يقوى على الصعود فى العربة الا بعد أن اعانه زملاؤه المعتقلون، فمات فى الطريق قبل أن يصل الى كسلا. هذا موجز للوقائع كما ورد بحكم دائرة المراجعة والذى قضى (بالأغلبية) برفض طلبات مراجعة حكم محكمة الموضوع. واطلاعا بواجبنا كقانونيين وحقوقيين فى نشر الوعى الحقوقى وتعليقا على كثير من الممارسات التى تقوم بها الاجهزة الشرطية والامنية، ليس فى بلادنا، فحسب (وذلك من أجل الانصاف)، رايت من الضرورى القاء بعض الضوء على مؤسسات العدالة الجنائية فى السودان منذ تأسيس الدولة السودانية الحديثة نهاية القرن التاسع عشر متناولا الرقابة القضائية على معاملة المتهمين والمقبوض عليهم داخل الحراسات والقواعد الاجرائية والنصوص القانونية الضابطة لذلك فى قانونى العقوبات (القانون الجنائى) والاجراءات الجنائية. صدر أول قانون للاجراءات الجنائية فى السودان الحديث عام 1899 أصدره الحاكم العام البريطانى قائد جيش الاحتلال اللورد هيوبرت كتشنر تحت اسم قانون جنايات السودان (ان صحت الترجمة) بموجب أمر عسكرى أو عدة أوامر عسكرية صدرت تباعا الى أن تم توحيدها فى تشريع واحد تحت اسم (قانون الاجراءات الجنائية لسنة 1925). وبعد اعلان دستور عام 1973 تم تشكيل لجنة قانونىة برئاسة النائب العام الاسبق دكتور زكى مصطفى (عليه رحمة الله) لمراجعة القوانين ، وأثمرت جهود الفرق المنضوية تحت لواء تلك اللجنة عن اقتراح مجموعة من مشروعات القوانين من بينها قانون العقوبات لسنة 1974 وقانون الاجرءات الجنائية لسنة 1974 وقانون تفسير القوانين والنصوص العامة لسنة 1974 أجازها البرلمان القائم حينذاك وصادق عليها رئيس الجمهورية. احتفظ قانون الاجراءات الجنائية لسنة 1974 ، بالاطار العام لسلفه قانون 1925 ، وبنفس القدر لم يتجاوز قانون العقوبات فى المجمل سلفه قانون 1925 . وفى عام 1983 صدرت منظومة تشريعات جديدة تحت شعار اسلمة القوانين ، تضمنت مجموعة من العقوبات الحدية وصاحب ذلك تعديلات فى اختصاصات المحاكم الجنائية لتحديد صلاحياتها فيما يتعلق بجرائم القصاص والحدود، وان احتفظت تلك التشريعات بنفس هيكل اسلافها قوانين عام 1974. أخيرا وبعد انقلاب 30 يونيو 1989 صدر القانون الجنائى لسنة 1991 وقانون الاجراءات الجنائية لسنة 1991، وهما التشريعان النافذان حتى هذه اللحظة. لقد أولت التشريعات الجنائية المتعاقبة (الموضوعية منها والاجرائية )، منذ تأسيس الدولة السودانية الحديثة، عناية هامة لحقوق المتهمين والمقبوض عليهم فحظرت سوء معاملة المقبوض عليهم واعتبرت ذلك جريمة معاقب عليها قانونا. ويمكن ايجاز القيود والضوابط التى وضعتها تلك التشريعات فى الاتى: 1. لا جريمة ولا عقوبة بلا نص قانونى 2. المتهم برىء حتى تثبت ادانته 3. يحظر الاعتداء على نفس المتهم وماله ولا يجبر على تقديم دليل ضد نفسه 4. لا يجوز لسلطات التحرى أو أى شخص اخر التاثير على المتهم أو المقبوض عليه بالاغراء أو الاكراه أو الأذى لحمله على الادلاء بأى اقوال أو معلومات أو الامتناع عن ذلك 5. يجب معاملة المقبوض عليهم بما يحفظ كرامة الانسان ولا يجوز ايذاؤه بدنيا أو معنويا ، وتوفر له الرعاية الطبية المناسبة 6. للمقبوض عليه حق الاتصال بمحاميه أو مقابلة وكيل النيابة أو القاضى 7. وللمقبوض عليه لحق باتصال باسرته أو الجهة التى يتبع لها. (المواد 4 و43 و80 من قانون الاجراءات الجنائية لسنة 1991) أشرنا فى مطلع هذا المقال الى أن قرار المحكمة العليا القاضى برفض طلبات المراجعة قد صدر بالاغلبية وليس بالاجماع. فقد اعد أحد اعضاء الطاقم القضائى مذكرة برأى مخالف قرر فيها قبول طلبات المراجعة وتعديل عقوبة الاتهام الصادرة بحق بعض المتهمين الى السجن لمدة 6 سنوات بانيا رؤيته على ما يمكن تلخيصه فى الاتى: 1. نفى القاضى المحترم توافر نية (القصد الجنائى) لدى المتهمين لتسبيب الموت للمجني عليه وذكر أن القصد المباشر "من هذا التعذيب (التسخين) انتزاع معلومات من المعتقلين تدلهم على الاشخاص الذين يقفون وراء أحداث المظاهرات وليس قصدهم من ذلك احداث وفاتهم" وأضاف "ومفاد ذلك أن قصد المتهمين انصرف الى انتزاع معلومات من المعتقلين ولم ينصرف الى قتلهم" 2. أن المتهمين "فى ضربهم للمعتقلين تجنبوا المواضع الحساسة من الجسم كالرأس والبطن والعنق وغيرها" 3. أقتبس ايضا من مذكرة الرأى المخالف "رغم تجاوز الضربات حدا مبالغا فيه فى حالة المرحوم ، ولكن هذه الضربات لم تكسر عظما ولم تحدث جرحا" 4. أقتبس أيضا "..فان الوسيلة المستخدمة فى تسبيب الاذى للمرحوم لم تكن ذات طبيعة خطرة وهى عبارة عن خرطوش مياه (الة صلبة أو صلبة مرنة مثل الخرطوش محضر التحرى صفحة 107) ولكن الاسراف فى استعمالها نتجت عنه مضاعفات كانت السبب فى موت المرحوم الامر الذى يجعل موته نتيجة محتملة لفعل الجناة وليست راجحة…) ناقش مولانا القاضى فى مذكرة رأيه المخالف علاقة السببية باسهاب وخلص منها لنفس النتيجة وهى أن الضرب المبرح الذى تعرض له الشهيد المجنى عليه يحتمل حدوث الموت أو عدم حدوثه وأن الرجل العادى lay man لن يندهش اذا مات المجنى عليه نتيجة هذا الضرب المبرح أو اذا نجا منه، وذلك بناء على تحليله للتقارير الطبية التى اطلعت عليها المحكمة، فهى حسب تقديره لا تقود لاستنتاج يرجح حدوث الموت بسبب أفعال المتهمين. ارشيف القضاء السودانى الحديث ، منذ تأسيسه نهاية القرن قبل الماضى يحوى معالجات ثرة لبينة التقرير الطبى ووزن التقرير الطبى medical report ، وهل يجوز للمحكمة تكليف الطبيب بالمثول أمامها كشاهد، أم تكتفى بالتقرير طالما هداها تقديرها ووجدانها الى سلامة الاسسس التى بنى عليها واطمانت الى مضمونه؟ لقد عالجت المادة 162 من قانون الاجراءات الجنائية مسألة شهادة الطبيب والخبير وبينت سلطات المحكمة فيما يتعلق بوزن التقرير (قيمته فى الاثبات) وصلاحياتها فى استدعاء الطبيب كشاهد أو الاستغناء عن شهادته. كما تولت المنشورات القضائية الصادرة من رئيس القضاء عبر العقود توجيهات وافية للقضاة فى هذا الشأن توازن بين مقتضيات العدالة والموارد المتاحة لوزارة الصحة ، فواجبات الاطباء المهنية فى بعض اقاليم السودان قد تجعل استدعاء الطبيب للشهادة أمرا غير ميسور. ولكن من الجائز جدا أن تستدعى المحكمة الطبيب للمثول كشاهد لاستجلاء بعض الامور غيرالواضحة فى التقرير for the ends of justice وفقا لاحكام المادة 162 المشار اليها انفا. ففى عام 1945 رفض السيد رئيس القاضى قبول تقرير طبي حول سبب موت المجنى عليه وأمر بمثول الطبيب كشاهد على اليمين لمناقشته cross-examination فى محتوى التقرير، الذى رأته المحكمة against the common sense. ولكن ما استرعى انتباهى فى مذكرة الرأى المخالف، رغم ما حوته من جهد مقدر فى الاستعانة يالاسانيد العلمية والحجج القانونية التى تفوق الحجج التى حشدها الدفاع لدفع الموت عن المحكومين الا أنها، فى رأيى المتواضع أغفلت مسألتين على قدر هائل من ألأهمية لتحديد سبب الوفاة: جسد الشهيد، وحالته قبل الاعتقال وبعده. لقد اثبت شهود الاتهام حالة المتهم داخل حراسات جهاز الأمن والمخابرات الوطنى بخشم القربة (ممددا على الارض وأياديه ممدودة بعيدة عن جسمه) وداخل الزنزانة كان يعانى من ألم فى البطن ، لم يقو على الصعود فوق العربة فأعانه زملاؤه، مات فى الطريق الى كسلا. رغم هذه المعاناة الناتجة عن التعذيب والضرب المبرح (حسب قرار القاضى المعارض نفسه) لم يبادر أحد (من الجهاز) الى استدعاء الطبيب لاسعاف المجنى عليه!! لم يتعرض الرأى المخالف لهذا الامر ابدا ، بل اتجه مباشرة لسرد الأسانيد التى تدفع مسؤولية موت المجنى عليه الشهيد عن المتهمين . بقاء المتهم على هذه الحالة دون اسعاف الى يوم الجمعة الا يعد جريمة فى حق هذا المواطن تسببت فى موته فوق ما لاقاه من ضرب وتعذيب واهانة للكرامة والكبرياء؟ ألم يخالف المتهمون أحكام المادة 75 من القانون الجنائى التى تجرم الامتناع عن المساعدة الطبية؟: "من يكون فى وسعه مساعدة انسان أصيب بأذى أو فى حالة اغماء أو اشرف على الهلاك ويمتنع قصدا عن تقديم ما يمكنه من مساعدة لا تعرض نفسه أو غيره للخطر ، يعاقب بالسجن مدة لا تجاوز ثلاثة أشهر أو بالغرامة أو بالعقوبتين معا" وفى قضية الشهيد أحمد الخير فان المتهمون أنفسهم هم من سبب الاذى واذوا المجنى عليه بالضرب المبرح والتعذيب والتعذيب الممنهج وتعاقبوا عليه ضربا وركلا منذ أعتقاله ، وامتنعوا عن اسعافه ، بل وقرروا ارساله الى كسلا ، وهو على هذه الحال لم يرحمه العسس القادمون كسلا من الضرب والتعذيب ليموت بعدها فى الطريق. فالمجنى عليه هلك نتيجة سلسلة من الافعال المركبة: ضرب مبرح لمدة يومين ، بقاؤه دون اسعاف رغم معاناة الألم ، ومع ذلك هنالك من يرى أن الرجل العادى لن يندهش اذا مات أحمد الخير أم لم يمت. أن وجد مثل هذا الرجل فسوف لن يكون عاديا حسب علمنا المتواضع. ثم أن المجنى عليه لم يرتكب جرما حتى ينال ما ناله من ضرب (لانتزاع) اعتراف منه حول من يقف وراء المظاهرات، فالتظاهر حق دستورى مشروع بموجب دستور 2005 القائم فى ذلك الوقت، والمجنى عليه ومن يقفون وراءه ايا هم ، كانوا يمارسون حقهم الطبيعى فى الاحتجاج السلمى. اذن فافعال جهاز الان والمخابرات بالمجمل هى افعال غير مشروعة: ممارسة العنف تجاه تجمهر مشروع، اعتقال غير قانونى ، تعذيب المعتقلين مما افضى الى موت أحدهم. ما يلزمنا ليس محرد هيكلة أجهزة، بل يلزمنا اعادة هيكلة منظومة القيم والمبادىء والاداب كى نؤسس أجهزة غايتها الانسان والمواطن والوطن وليس الملة والمذهب . ان كل الشرائع الانسانية بنيت على قيمة الانسان والانسانية، الحق فى الحياة ، احترام الكرامة الانسانية ، حق الفرد فى الحرية والاستمتاع بمباهج الحياة. يجب أن يكون للوظيفة والولاية العامة وثيقة قيم وسلوك مهنى وعقيدة مبنية على هذه القيم. فليس يصلح للوظيفة العامة خصوصا فى الاجهزة الامنية والعدلية من يعتدى على المواطن بالاذى البدنى أو المعنوى واللفظ البذيء. اننا نشهد فى بلادنا بونا شاسعا بين التشريعات ومنظومة القيم وبين ما يجرى على الارض. ولعل مقتل الشهيد أحمد الخير خير دليل على فساد العقيدة الامنية. الحرية قيمة سامية لا تعدلها أى نعمة فى الوجود.خلق الانسان عزيزا ومكرما، فمتى استعبدتم الناس وقد ولدوا أحرار؟ عبدالاله عثمان 3 أكتوبر 2022