لم يكن العمل بالجامعات الإقليمية الجديدة أمراً سهلاً. فقد كانت تنقصها كل متطلبات الجامعات و ذلك ؛ لأنها لم تقم على فلسفة أكاديمية بقدر ما هي قامت على فلسفة سياسية هدفها حشد أكبر عدد من الشباب حتى يتم تنظيمهم إدارياً وتجنيدهم سياسياً لصالح الجبهة الإسلامية القومية. وإعتقد االنافذون والقائمون على أمر حزب الجبهة الإسلامية القومية أنهم يستطيعون أن يهيمنوا على قطاع كبير من الشباب إن هم إستطاعوا أن يقيموا جامعات إقليمية ويستولوا على إتحاداتها كما الحال في جامعة الخرطوم. في دارفور ، الوالى هو الذى يحدد موعد فتح الجامعة و بدأ الدراسة (كما إتضح من اللقاء السابق) ، ووضع البرامج الثقافية والاجتماعية وتحديد مسار الجامعة ، ويتدخل في الذى يعنيه و الذى لا يعنيه. يقوم بالزيارات المفاجئة فيربك بذلك الإدارة والأساتذة والطلاب. هذه الجامعة الوليدة التي لم تكتمل مبانيها والتي كان الكثيرون يعتبرونها جامعة مثالية كانت تشكو الكثير المثير ، كانت تشكو من مشاكل كثيرة ومعقدة . تشكو من نقص حاد في القاعات والمعامل والمعدات والأدوات والوسائل التعليمية والأساتذة وضغط بعض المقررات في زمن وجيز وتأجيل بعضها إلى وقت لاحق وعدم انضباط في ترحيل الطلاب بالإضافة إلى سيف الإنقاذ المسلط على الرقاب وأحكام قضاته الجاهزه. ولقد قمنا بالتدريس في مناخ تنعدم فيه الحرية الفكرية والممارسة الديمقراطية والسماحة الأكاديمية والجامعة تحت إدارة نائب مدير(جبهجى) ملتزم نسبة لغياب مديرها المتواصل وذلك ؛ إما لحضور دورة جديدة للدفاع الشعبى أو لسعيه المحموم بحثاً عن أساتذة وكتب ومعدات. ومرت الأيام وكان التلفاز حاضراً و شاهداً. دعا الوالى لإجتماع طارئ لمجلس إدارة الجامعة ، وشن هجوماً عنيفاً على الجامعة والقائمين على أمرها. إنتقد الوالى بعنف مدير الجامعة شخصياً البروفسير إبراهيم الأمين حجر و وصفه بأنه رجل أكاديمى متحجر لا يصلح لللمرحلة، قائلاً : نحن في هذه الولاية لسنا في حاجة إلى أكاديميين مثلك ، نحن في حاجة إلى أكاديميين سياسيين على الأستاذ الجامعى أن يخرج للناس في المنابر العامة وفي المساجد واعظاً ومرشداً ليفقهم أمور دينهم و دنياهم ، لا أن ييختبئ في الحرم الجامعى قابعآ في صومعته بين أضابير الكتب وقاعات الدرس والمعامل. سبحان الله أصبح الإنضباط الأكاديمى والغيرة المهنية مسبة! وكان واضحاً من هذا الحديث أنه يعنى بلغة أهلنا الطيبين "الكلام ليك يا المطير عينيك". وأسقط في أيدى الجميع ؛ لأنه لم تكن هنالك فرصة للرد على الوالى ، حتى رئيس مجلس الإدارة الدكتور على حسن تاج الدين قد أسقط في يده أيضًا. بعدها إجتمع بنا مدير الجامعة وأطلعنا على قراره بالإستقالة و طلب منا أن نواصل المشوار. و كان أكثرنا حماساً لإقناعه هو نائبه الدكتور إبراهيم آدم إسحق وكنا نعلم علم اليقين أنه كان يطير من الفرح والسعادة بالرغم من الكلام المعسول المنمق المهذب الجميل الذى يكاد يقطر حليباً وشهداً ؛ لأن كل هذه المصائب كانت من وراء ظهره. إن إعتصم الطلاب بمبانى الجامعة ضد أية سياسة أكاديمية فنحن المسؤولون في نظر جهاز الأمن وإن هم خرجوا في مظاهرة ضد النظام فنحن كذلك. وكثيرًا ما تخرج الولاية في مسيرات سياسية ضخمة كلما تحقق لأنصار الجبهة اإنتصار ولو ضئيلاً في الجنوب ، تطالبنا الإدارة والجهات الأمنية بالمشاركة في الخروج وإبداء التعبير عن الفرحة و رفع شعارات الجهاد والإستشهاد. وحين لا نخرج نتهم بأننا ضد النظام وطابور خامس يسعى لزعزعة الأمن والاستقرار. وهكذا ، إن إعتذرنا يوماً للطلاب في قاعة المعمل عن شح إمكانات المعمل ، فُسّر كلامنا على أنه تحريض. كما أصبح الوقوف مع الطلاب خارج قاعات الدرس جريمة لا تغتفر. أما إبداء الرأي والرأي الآخر المخالف حتى ولو بغرض المصلحة العامة وفي مسألة أكاديمية بحتة يعتبر إساءة للوطن والعقيدة وخيار الأمة الحضارى . هذه العوامل مجتمعة بالإضافة إلى الإضرابات المتكررة وإستقالة المدير وعوامل أخرى جعلت من المناخ الأكاديمى مناخاً طارداً غير معافى مما جعلنى أقدم إستقالتى. كتبت إستقالتى يوم 16 يونيو 1993م وتركتها عند أحد الزملاء الأصدقاء ليقوم بتسليمها للإدارة بعدمغادرتى الفاشر. وهذا ما تم بالفعل. وذلك لأن الإستقالة فى حد ذاتها تعتبر جريمة ضارة بالوطن وتصب فى خانة تخريب موارد البلادالإقتصادية والبشرية . وغادرت أنا والصغيرة سلمى ذات العامين إلّا أربعة أشهر وزوجتى الحامل ذات السبعة أشهر والتي رفضت سودانير حملها إلّا بتعهد طبى. غادرنا ، ثلاثتنا ، الفاشر بحقائب ملابسنا فقط ، تاركين البيت بما فيه ، ولم يغادر التلفاز معنا. في الخرطوم ، لم يقبل وزير التعليم العالى والبحث العلمى إستقالة بروفيسور حجر وإنما عينه مديراً مكلفاً لجامعة النيلين (جامعة القاهرة الفرع) ليضرب به المصريين ويخوض به تجربة المصادرة والسودنة المجهولة العواقب. وفي الخرطوم أيضًا ، واصلت زوجتى السفر هي والصغيرة سلمى إلى كسلا وبقيت أنا في إمتداد ناصر مع العزيز عوض الله عريس وزوجته الحسناء آمال على وكريمتيهما الصغيرتين ريم وريّان . والتحقت بجامعة النيلين متعاوناً فى يوم 24 يونيو 1993. ولقد أتاح لى هذا التعاون أن أقف عن قرب على تجربة نقل تلك المؤوسسة من السيادة المصرية إلى السيادة السودانية. قد أختلف كثيراً مع الجهة التي أصدرت القرار والتوقيت والكيفية التي تمت بها السودنة ، إلّا أننى ، والحقيقة تقال ، طربت أيما طرب للفكرة وإن كنت أرى أن هنالك أسلوب آخر أفضل للتنفيذ. طربت للسودنة ؛ لأن جامعة القاهرة فرع الخرطوم في تقديرى كانت مستعمرة مصرية وليست مؤوسسة أكاديمية ، بها سبعة وعشرون ألف طالب و طالبة نظاميين ومنتسبين و لا يوجد بها سودانى واحد أستاذاً كان أو موظفاً ، إلّا عشرون عاملاً فقط من الإقليم الجنوبى. كما أن الطلاب المصريون الذين لا يجدون فرصاً في الجامعات المصرية العريقة يقبلون بها لفترة قصيرة مؤقته ، يقضون عاماً أكاديمياً واحداً ثم يتم تحويلهم إلى الجامعات العريقة وهناك حكايات تمس الاقتصاد والأمن القومى السودانى ، منها على سبيل المثال كأن تستدعى السفارة المصرية بالخرطوم من تحتاج إليهم من رجال الأمن والإستخبارات تحت غطاء الأساتذة الزائرين. أخذت منّا السودنة في كلية العلوم ثلاثة أشهر تقريباً. كنا في البداية ثلاثة فقط ، بروفيسور ياسين النجومى عميد الكلية ، مسجل الكلية وشخصى. كان برنامجى خلال هذه الأشهر الثلاثة ثابتاً لم يتغير أبداً . أخرج في الصباح الباكر، أركب الحافلة إلى وسط الخرطوم ، أمشى باقى المسافة آلى كلية العلوم راجلاً. وفي آخر اليوم أى في الثانية ظهرًا أركب مع بروفيسور نجومى إلى نادى أساتذة جامعة الخرطوم ، ألتقى الأصدقاء عبدالمنعم هلالي ، صديق بابكر ، إبراهيم خالد ، أبوالقاسم إبراهيم و آخرين ، نتغدى ، نتآنس حتى الساعة الخامسة مساء ، تكون شمس الصيف قد هدأت و بدأت تبرد قليلاً فيحلو الجو ويحلو المشى فأمشى راجلاً إلى إمتداد ناصر . وهكذا كل يوم. واجهتنا تحديات كثيرة في البداية ولكن أظرف تحدٍ أخذ من وقتنا الكثير وجهداً مقدراً كان كيف نفتح أبواب ومكاتب وقاعات ومعامل كلية العلوم التي تقع في مبنى من خمسة طوابق ليس به مصعد . المبنى حديث البناء ولكن لم يكتمل تركيب المصعد فيه برغم تجهيز البئر. وجدنا كل مفاتيح الكلية في كرتونة واحدة دون وجود ديباجات عليها توضح هوية كل مفتاح لا أدرى كيف كان يتعامل معها المصريون !. تزامن تأميم الجامعة وحصارها من قبل أمن النظام مع إمتحانات نهاية العام . وكان بروفيسور نجومى حريصاً كل الحرص على سرية عملنا ونحن نحاول فتح الأبواب المغلقة بحيث لا يتسرب شيئ ذو أهمية ؛ لذلك رفض أن نستعين بأى عمالة من خارج الكلية أي من خارجنا نحن الثلاثة. فكنا نفتح الباب في حذر و نمشى في حذر و نجول ببصرنا في حذر و نرتب ما نجد من أوراق ونسمى المفتاح المعنى وننتقل إلى باب آخر وهكذا كنا نجرب كل المفاتيح ، قد نوفق من البداية من أول وهلة ونجد المفتاح المطلوب وقد نجده في منتصف الطريق وقد لا نجده إلّا في النهاية بعد أن نكون قد جربنا كل المفاتيح. هل أدركت قارئ العزيز حجم معاناتنا ؟ . ماذا وجدنا ؟ وجدنا جدول الإمتحانات .. وجدنا مواداً أُمتحنت ومواداً لم تمتحن. مواداً أمتحنت وصححت ورصدت ، ومواداً إمتحنت ولكن لم نجد لها رصداً ؟ إتضح أن بعض المواد حملها الأساتذه معهم إلى بيوتهم وأصبح الوضع من حملوه معهم من مواد بقى معهم ولم نطالبهم به ومن وجدناه في مبنى الكلية تعاملنا معه . فكنا نجتمع كل يوم مع العميد نديرعملنا اليومى في مكتب واحد أرضى لأن مكتب العميد كان في الطابق الخامس. و بدأت مجموعتنا تكبر و تكبر مع إستيعاب الأساتذة الجدد ، وحين رفع المدير القائمة بالأساتذة الذين تم إختيارهم إلى وزير التعليم العالى والبحث العلمى للتصديق عليها وإعتمادها ، أعتمدها الوزير كلّها عدا اسمى ، كتب أمامه" .. يرجع إلى جامعته". سألت العميد يوم ذاك عن كيف تم تعيينه عميدًا لهذه الكلية ؟ قال: سمعت اسمى والقرار مثل كل الناس في التلفزيون ، الوزير من جيلى وزميل دراسة ولكن توجهاتنا الفكرية مختلفة وفي أول لقاء لى معه سألته : " ناسك كملو وألّاشنو يا إبراهيم ؟ قال لى "ما كملو يا نجومى لاكين دايرك تأسس لى الكلية" . span;"قلت ليه تأسيس كلية زى دى داير قروش ، بتدفعوا ؟ "قال لى بندفع يا نجومى"، " توعدو ؟" " بنوعد يا نجومى". [email protected]