في العام 2018، جاء ديسمبر وهو يحمل بين ثنايا أيامه شرارة الحريق الأكبر لنظام المخلوع البشير، وحينها لم يكن البشير ولا زبانيته يظنون أن تلك الشرارة الصغيرة ستغدو حريقاً سياسياً يستحيل اطفائه، كان البشير مُستكيناً في غمرة سلطانه، يحلم ب"30″ عاماً أخرى، وكان انصاره يعتقدون بأنهم وحدهم هم من يمتلك حق الحاكمية المطلقة، و ان الأنباء الواردة من الدمازين أو عطبرة باندلاع تظاهرات، لا تعدو كونها ضجة لمهرجين شُذاذ آفاق، يريدون استغلال ضائقة الخبز، ظناً بأنها كافية لإسقاط نظام يمتلك السلاح والجيوش والمليشيات وكتائب الظل، إلا أن حريق مقر حزب المؤتمر الوطني في عطبرة في 19 ديسمبر، كان هو تلك الشرارة الثورية التي اضاءت لشعب السودان طريق الخلاص من القهر والخوف والخنوع، وسرعان ما تمددت التظاهرات لبقية مدن السودان، وعم الهتاف ب(تسقط بس) كل الارجاء، ولم تنجو منه حتى مسامع البشير نفسه جهاراً نهاراً وهو وسط قواته وحُراسه وحشود مناصريه، وحينما بلغت الخرطوم العاصمة، عافية الحلم بالثورة والانتفاضة ضد نظام البشير، أدرك السودانيون أن النظام يمضي إلى حتفه، وأن نهر الدماء المتدفق من الشهداء، كان يجرف معه بقايا الخوف من نفوس السودانيين، يطهرها من رجس الاستسلام، ويُبقيها على العهد مع الشهداء لتمام النصر الوشيك. قبل الانقلاب تواصل المد الثوري الطامح لإسقاط البشير ونظامه من 19 ديسمبر 2018 إلى بدايات أبريل 2019، و كان السودانيون قد ابتكروا أدوات سلمية جديدة بما يُعرف ب(المواكب)، وكان كل موكب مرسوم على دفاتر الحضور الثوري، يعني انتصاراً للحركة الجماهيرية، ويعني بالمقابل هزيمة للنظام ولكل ادعاءاته الزيف، ورغم القمع والوحشية التي كانت تُواجه بها المواكب، إلا أن صمود الثوار كان كبيراً وكان يتسع ويتمدد يوماً بعد يوم، إلى أن قرر الثوار اقتحام محيط القيادة العامة في السادس من أبريل 2019، وبالفعل وصل الثوار محيط القيادة العامة واعتصموا حولها تحت أنظار العالم بأجمعه ووسط دهشة مؤيدي نظام البشير، وحينها انعدمت الحيلة بالنسبة للبشير، وصار يُقلب كفيه ينادي لمن ينقذه، لكنه لم يجد غير التردد وبعض استسلام من لدن قواته وجنوده، إلى أن اضطرت قيادات عسكرية من الجيش اعلان انحيازها للجماهير وقررت اقتلاع البشير ونظامه في 11 أبريل، بيد أن الثوار الذين خبروا مكر أهل النظام، لم يبارحوا ساحة الاعتصام حتى يتم تسليم السلطة كاملة للمدنيين، وفي 13 أبريل ظهر المجلس العسكري الانتقالي بقيادة البرهان ونائبه حميدتي وعدد من قادة الجيش، وأعلن الانحياز كاملاً لشعارات الثورة وقام باعتقال البشير وعدد من رموز نظامه، الا ان الثوار اثروا أيضاً البقاء في ساحة الاعتصام إلى حين انتهاء مراسم تسليم السلطة للقوى السياسية التي كانت تمثلها قوى إعلان الحرية والتغيير انابةً عن قوى الثورة، لكن لم يكن مجلس البرهان وحميدتي ينوي ذلك، بل كان يخطط للاستيلاء على كامل الفترة الانتقالية، وهو ما رفضه ثوار ميدان الاعتصام، وفي 3 يونيو وفي ظل حاكمية المجلس العسكري الانتقالي، تم فض اعتصام القيادة العامة بوحشية لم يشهدها تاريخ السودان الحديث، ومما ساهم في تخليق واقعا سياسياً جديداً يقوم على رغبة الثوار في القصاص للشهداء الذين غدروا خواتيم رمضان وقبيل شمس العيد، وهم الذين قد جعلوا الثورة واقعاً، ولو لاهم لكان البرهان وحميدتي وكل بقية المجلس العسكري، مجرد خُدام مطعين تحت إمرة البشير. بعد الانقلاب كانت مجزرة فض اعتصام القيادة العامة بمثابة الانقلاب العسكري الأول ضد غايات ثورة ديسمبر، إلا أن النهوض الجماهيري المُدهش في 30 يونيو 2019م، كان هو بمثابة أقوى إنذار جماهيري عرفه السودان ضد عسكرة الدولة، وهو ما ترتب عليه اذعان المجلس العسكري الانتقالي لنداءات المجتمع الدولي والاقليمي بتوقيع الوثيقة الدستورية في أغسطس 2019، ورغم ان الحرية والتغيير شرعت في تعيين حكومتها التنفيذية لقيادة الفترة الانتقالية بشراكة مع المكون العسكري، إلا أن ذاكرة الثوار عن جريمة فض الاعتصام هي ما جعلت مسارات الشراكة لا يمكن لها السير بسلاسة على نهر دماء الشهداء صُناع الثورة والتغيير، هذا بجانب نشاط قوى الثورة المُضادة التي كانت تسعى لتقويض التجربة بشتى السبل، ورغم ان تواريخ ذكرى 19 ديسمبر في 2019 و2020 كانت بمثابة جرس تنبيه شديد الرنين داخل اروقة الحكومة الانتقالية، إلا أن الحكومة كانت تستعجل كتابة نهاية بريق ثورة ديسمبر وخفوض عنفوانها، حتى نجح المكون العسكري في الانقضاض الكامل على السلطة الانتقالية في 25 أكتوبر وأنهى بذلك التأسيس الدستوري للثورة. لكن كان الثوار في الموعد، وقرروا مناهضة الانقلاب بذات سلاح المواكب الثورية، وفي 19 ديسمبر 2021 العام الماضي تمكن الثوار ولأول مرة في التاريخ من وصول ساحة القصر الجمهوري، لكنهم قمعوا أشد القمع واخرجوا منها قبل أن يقيموا فيها اعتصام اخر. ثم سار العام الحالي على ذات الوتيرة، ولم تنقطع المواكب الثورية، رغم سقوط 122 شهيداً خلال هذا العام، وبعد طول معارك من الكر والفر بين الثوار وقوات الانقلاب، لم تستطع السلطة الإنقلابية تشكيل حكومة مدنية، وصارت تتخبط في مسارات البحث عن حلول، حتى بلغت محطة الاتفاق الاطاري مع بعض من قوى الثورة، إلا أن ثوار لجان المقاومة لا زالوا على عهدهم مع الشهداء، يواصلون زحفهم المقدس في طريق المواكب لإسقاط الانقلاب، وهاهم يضعون ذكرى 19 ديسمبر ليوم الغد نصب أعينهم، لكنهم يريدونها هذه المرة اسقاطاً لمشاريع اية تسوية سياسية مع ذات القادة العسكريين الذين سبق وأن انقلبوا على الثورة في 3 يونيو 2019م وفي 25 أكتوبر 2021م. الجريدة