العالم من حولنا تعصف به الزوابع . ها هي ديناميكية النيوليبرالية تطوي آخر أشعة غروبها في زمن وصفه علماء الاجتماع بأنه لحظة ديمقراطية ضد الديمقراطية كما يقول مارسيل غوشيه . الحرب الروسية الاكرانية تجعل اوروبا الغربية في حالة تشبه لحظة أزمة الطاقة عام 1973م وبعدها قد وضحت ملامح نهاية الكينزية كديناميكية وقد حلت محلها النيوليبرالية. أود أن ألفت إنتباه القارئ لملاحظة مهمة وهي أن الكينزية كديناميكية قد تبدت ملامحها عام 1934م وقد وصلت لمنتهاها في عام 1974م وبعدها سار العالم بأكمله متدحرج الى لحظة بزوغ أشعة النيوليبرالية بانتخاب تاتشر و ريغان . كانت الكينزية تسير في بتفسير حقول الاقتصاد والاجتماع وقد حققت البشرية عبرها أجمل حقبة أعقبت الحرب العالمية الثانية. على مدى أربعة عقود كان سير خط الكينزية وكذلك على مدى أربعة عقود كان سير خط النيوليبرالية أي من 1979م الى لحظة الأزمة الاقتصادية عام 2009م لاحظ كل من الكينزية والنيوليبرالية قد قطعت مسافة أربعة عقود وتوقفت كديناميكية. وعليك أن تلاحظ أيها القارئ المحترم أن هناك فترة زمنية أعقبت الكينزية بعد أن توقفت ولكن كان العالم متدحرج بقوته الذاتية بدون ديناميكية لمدة عقد من الزمن وكذلك الآن أن النيوليبرالية قد توقفت نهائيا عن السير والعالم بأكمله ينتظر ميلاد ديناميكية جديدة تحل محل النيوليبرالية. الشعوب المتحضرة بفاعلية روح مراكز بحوثها تعرف أنها تسير نحو ديناميكية الحماية الاقتصادية التي سوف تحل محل النيوليبرالية. وهناك من الفلاسفة والاقتصاديين وعلماء الاجتماع قد تحدثوا عن ديناميكية الحماية الاقتصادية وهي أيضا من صميم الفكر الليبرالي لدارسي أدب النظريات الاقتصادية وتاريخ الفكر الاقتصادي. في ديناميكية الحماية الاقتصادية سوف تنطوي كل أمة على نفسها لكي تعيد صناعاتها الوطنية التي دمرتها النيوليبرالية بفكرة العولمة لكي تعيد إزدهارها الاقتصادي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية وفيه قد تحققت فكرة الحد الادنى للدخل أي فكرة الضمان الاجتماعي ومسؤولية المجتمع نحو الفرد حيث يتمتع الفرد بحد أدنى للدخل يحفظ له كرامته كانسان. في حقبة الحماية الاقتصادية سوف يكون هناك ضبط قوي لحركة رؤوس الأموال والسلع مع إمكانية التجارب الصناعية وخبرة الدولة الصناعية لحيز دول العالم الثالث مقابل أخذ ما تحتاجه الدولة المتقدمة من مواد خام توجد في دول العالم الثالث. وهنا نحتاج لريادات وطنية متكافئة في مستوى الوعي مع مثقفي العالم المتحضر حتى تستطيع ضبط العلاقة بشكل جيد وأقول للنخب السودانية هذه فرصة لنقل تجارب الدول الصناعية أي إمكانية التحول من دولة تقليدية الى دولة حديثة أي بنقل تجربة الغرب الصناعية وهذا سبيلنا الوحيد للخروج من حيز المجتمعات التقليدية. فشلت مصر في التحول لدولة صناعية وهذا سر إختناقاتها الاقتصادية وقد قالها ذات يوم الاقتصادي المصري جلال أمين في كتابه ماذا حدث للمصريين؟ لأن السودان له موارد اقتصادية هائلة ويستطيع أن يتفادى خيبات مصر في عجزها أن تكون دولة صناعية. على النخب السودانية أن تنتبه للفرصة الحالية المتاحة أي أن أفريقيا لأول مرة يريد العالم المتقدم إدخالها الى الطلب العالمي وتكون جزء من مناشط الاقتصاد وعليه يجب على النخب السودانية أن تستفيد من لحظة تحول العالم من ديناميكية النيوليبرالية الى ديناميكية جديدة وهي الحماية الاقتصادية. وعبرها يمكننا نقل التجارب الصناعية للغرب في مبادلة واعية من نخب واعية بمواردنا الاقتصادية وبعدها سوف يكون السودان جزء من الاقتصاد العالمي يتأثر به ويؤثر وهذا ما عجزت مصر أن تكونه لأنها ليست لها موارد كالسودان تستطيع عبرها التحكم في نقل تجارب الدول الصناعية. ولهذا لا تريد مصر إستقرار سياسي يؤدي لتحول ديمقراطي لأنه عبر التحول الديمقراطية نكون قد سلكنا أقصر الطرق للخروج من حيز المجتمعات التقليدية سيرا نحو مفهوم الدولة الحديثة. تريدنا مصر أن نكون تحت شمولية وبربرية الحركة الاسلامية حتى تستفيد مصر من مواردنا لكي تعبر من حيز المجتمع التقليدي الى حيز مجتمع حديث وهيهات. على النخب السودانية أن تنتبه الى مفصلية اللحظة و أقصد التحول من النيوليبرالية الى الحماية الاقتصادية وهذا تسهل ملاحظته مثلا خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي لكي تنطوي على نفسها وتعيد أمجاد صناعاتها من جديد حيث يصعب ذلك وهي في حيز الاتحاد الأوروبي إنتخاب ترامب ومحاولة إحياءه الصناعات الوطنية. وهذا يتطلب من النخب السودانية أن تتغير وتنعتق من فكرها القديم فكر دولة الإرادة الإلهية ونجده في حيز أحزاب اللجؤ الى الغيب أي أحزاب الطائفية حزب الأمة وحزب الميرغني والسلفيين والكيزان ولا يختلف عنهم الجذريين السودانيين عندما فشلوا أن يأتوا من الغرب بماركسية كماركسية أحزاب الغرب الماركسية وهي تؤمن بفكرة نمط الإنتاج الرأسمالي. إنعتاق النخب السودانية من فكرة الدولة الإلهية وفكرة الخضوع و الخنوع للمرشد والامام ومولانا والاستاذ عند الشيوعيين تحتاج لخلق علاقة جديدة تربط بين السياسي السوداني من جهة والفلاسفة والاقتصاديين وعلماء الاجتماع من جهة أخرى وعبرها ينتج أدب وفكر سياسي جديد نتاج مراكز بحوث كما نجده في علاقة المفكريين بالسياسيين في المجتمعات الحية أي المجتمعات المتحضرة. ودليلنا عليه علاقة ديغول بأندرية مالرو وريموند أرون وعلاقة فرانسوا ميتران بالمفكريين حتى وصل كاشتراكي الى إيمانه بالكينزية وقد أدخل وطبق فكرة الحد الادنى للدخل في فرنسا وقد أصبح في حيز الخالديين . اذا كانت هناك علاقة بين المفكريين السودانيين والسياسيين كما في الدول المتقدمة لما حدث أفشل إنقلاب يقوده البرهان. وغياب العلاقة بين السياسي السوداني والمفكريين وعلماء الاجتماع والاقتصاديين أدت لوصول نخب فاشلة فشلت في توضيح فكرة أن الثورات الكبرى كثورة ديسمبر تلحقها تشريعات كبرى تزيل ما تركته الانقاذ من ركام يسمى تجاوزا جهاز قضائي وسلطة قضائية. وضربنا مثلا من قبل كيف أحاط الرئيس الأمريكي روزفلت نفسه بمشرعيين في حقبة الكساد الاقتصادي العظيم وعبر بشعبه أحرج حقبة وقد كانت تشريعاته ضد طبقته ولكنه لم يتردد في إنقاذ شعبه وهنا يمكننا أن نفهم قول الدكتور منصور خالد أي تكاثر الزعازع وتناقص الأوتاد روزفلت وديغول وميتران كانوا أوتاد في زمن عصفت بمجتمعاتهم الزعازع. ومن هنا أرفع نداء لعلماء الاجتماع والاقتصاديين والفلاسفة أن تكون لهم علاقة بالسياسي السوداني الذي فشل أن يحدد اللحظات المفصلية في حياة الشعوب وكيف تكون هناك لحظات إنقلاب زمان يحتاج للفلاسفة والحكماء والأنبياء لكي يعبروا بشعوبهم. وهذا يتطلب من علماء الاجتماع والاقتصاديين السودانيين والمفكريين غير التقليديين والمؤرخيين غير التقليديين أن يفتحوا أبواب الفكر السوداني على عوالم غير مطروقة وهي فكرة القطيعة مع التراث السوداني القريب منه قبل البعيد. وفتح نوافذ بسعة حلم الشعب السوداني الذي أوحى للنخب وعليها أن تنزل نصوص وحيه وهي حرية سلام وعدالة ولا يكون ذلك بذاكرة نخب سودانية فشلت منذ أيام أندية الخريجيين وحقبة مؤتمر الخريجيين وانهياره وتسابقهم على أحزاب اللجؤ الى الغيب بقيادات طائفية أو جلبهم لماركسية متخلفة عن ماركسية الغرب التي تؤمن بنمط الانتاج الرأسمالي. وعليه دعوتنا لعلماء الاجتماع والاقتصاديين والمفكريين السودانيين غير التقليديين مساعدة السياسي السوداني في إنجاز ما أوحاه لكم الشعب السوداني لأن الشعب هو الذي يقوم بالتغيير وليس النخب وهذا أول درس فهمه السياسي السوداني الفاشل بعد ثورة ديسمبر المجيدة وشعارها حرية سلام وعدالة. وأول خطوات علاقة المفكريين وعلماء الاجتماع والاقتصاديين بالسياسي السوداني يجب أن تكون في كيفية ظهور ملامح الدولة وفك قبضة الكيزان من مفاصلها ولا يكون ذلك بغير تفكيك التمكين. وتفكيك التمكين يتيح فرصة ظهور ملامح الدولة وبعدها يمكننا أن نقول أن الدولة كمفهموم حديث قد أطلت بوجهها ولا يكون ذلك بغير حل الجهاز القضائي الكيزاني وإبعاد الكيزان من البنك المركزي بنك البنوك وإبعاد الكيزان من وزارة المالية والاقتصاد وإبعاد الكيزان من وزارة الخارجية حيث أصبحت عش دبابير كيزاني. إخضاع ديوان الزكاة للمالية وابعاد الكيزان من دهاليزه لأن محاربة الفقر في المجتمعات الحديثة ليس عبر ديوان الزكاة بل بتأسيس دولة حديثة تعرف نخبها كيف تخلق الثروة وكيف تقدم فلسفة لإعادة توزيعها وهذا هو البعد الفلسفي الذي لم يفهمه الكيزان. ولهذا قلنا نحتاج لقطيعة مع التراث الذي يتسلل عبره الكيزان . والقطيعة مع التراث تحتاج لفلاسفة وعلماء اجتماع واقتصاديين متسلحيين بفكرة صيرورة الديمقراطية وهي قد أصبحت بديلا للفكر الديني. وهنا نقول لأتباع حزب الامة وحزب الميرغني تتطلب منكم المرحلة الجديدة الشجاعة التي يسبقها الرأي في فك إرتباط أحزابكم بفكر دولة الإرادة الألهية وهذا يجعلكم في حوجة لخلق علاقة جديدة ما بين السياسي السوداني والمفكريين والفلاسفة والاقتصاديين والمؤرخيين غير التقليديين ومن هنا تبداء مسيرة إنعتاقكم من نير المرشد والامام ومولانا والاستاذ الشيوعي.