قصتي من زمن فات وفي ديلو سبعة لفات ويا ريت كان خلى لينا نص لفة لهذا الزمن الأغبر من وشوش المسئولين عننا أمام الله يوم القيامة . الم يقل ربنا عز وجل في سورة عبس (ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة). أما مسئولي الغفلة لدينا فمع الغبرة التي تضاهي غبار الدرت زادوها بالتقتير على عباد الله في السودان (مع اختلاف المعنى). كانت قصتي أو حكايتي يوم أن نجحت في امتحان الشهادة الابتدائية (فقد كنا في ذلك الزمان نجلس لامتحان الشهادة السودانية الابتدائية). عارفكم حتقولوا كومر واحمد الله الذي كومرنا وابكي عليكم وقد كمركم (من كامري يا جماعة). كان ذلك في العام الدراسي 1962م – 1963م وكنا نستعد للإنتقال من لبس الجلابية للبس الردا الكاكي الاستاكبورت والقميص الابيض البوبلين. كان عدد الجالسين للشهادة على مستوى السودان يزيد بقليل عن 25 الف تلميذ. كان ترتيبي ال 108 وكان أخي عبدالرحمن ترتيبه ال 37 وكان هذا يعتبر أو يوازي احرازنا لمراكز في العشرة الأوائل . وقتها ولضيق حال اليد لأسرتنا نصح أعمامي والدي بأن يلحقنا بالمدارس الصناعية لنتعلم صنعة تساعده على مقابلة تكاليف الحياة. فانبرت والدتي للموقف ورفضت تماما وسألت عن مفتش التعليم وكان صديقا لجارنا وقابلته فكتب اسمائنا في مذكرة له. كان الروتين وقتها أن تعقد مقابلة interview لكل الناجحين ويتم ذلك في (المركز) وكان مركزنا الخرطوم بحري ويجلس في المقابلة جميع كبار مفتشي التعليم في المركز. وتحدد المقابلة المدرسة التي يقبل فيها التلميذ وتحدد له المصاريف الدراسية. في ذلك الزمان كانت هناك مصاريف دراسية للتعليم العام بعد الابتدائي وقبل الجامعي (ما تضحكوا وتقولوا خربانة من زمان ، خليكم للنهاية) ، وتحدد المصاريف حسب مقدرة ودخل الوالد دون محاباة أو ظلم. كانت المصاريف الكاملة 12 جنيه في العام وأقل مصاريف 1 جنيه في العام. وأذكر أن صفنا الدراسي كان به تلميذين ابناء رئيس القضاء في ذلك الوقت وكانوا يدرسون بالمصاريف القصوى وتلميذ ثالث والده عضو في مجلس قيادة الثورة (أيام عبود) وكان وزيرا وكان يدفع المصاريف القصوى. (لاحظوا انهم كانوا يدرسوا معانا نحن اولاد الغبش). جاء دور عبدالرحمن أخي قبلي حسب ترتيبه وكانوا يدخلون 10 تلاميذ في الدفعة الواحدة للمقابلة ، وبعد قليل جاء الاستاذ الذي يعلن الأسماء ونده اسمي وطلب مني الدخول مع عبدالرحمن ووالدي. سأل المفتش والدي (عايزهم يقروا وين؟) فأجاب والدي عايز ادخلهم المدرسة الصناعية . فسألنا المفتش وانتو عايزين وين؟ فأجبنا بصوت واحد عاوزين الأميرية (هكذا اوصتنا أمي). فقرر المفتش (خلاص مقبولين في الأميرية الوسطى رقم 2 بحري عشان قريب من شمبات. فاعتذر والدي قائلا (لكن ما عندي حق المصاريف) فرد عليه المفتش ، وفي زول سألك من مصاريف ، ديل يقبلوا مجانا، ولو ديل وديناهم الصناعيه نودي منو للأكاديمي. رحم الله والدتي ووالدي والمفتش الانسان الاستاذ محمد موسى الذي انقذ مستقبلنا. هذه الحكاية لم تكن من كوكب اليابان ولا من ايسكندنافيا ولا بريطانيا التي كانت تستعمرنا ، كانت من السودان في فترة الرئيس الفريق ابراهيم عبود رحمه الله افضل وانزه وأعف من حكم السودان. واستمر تعليمنا المجاني وقد كانت تصرف لنا كل متطلبات الدراسة حتى الاستيكة وكراسة خارجية للشخبطة وتعبأ دواة الحبر يومي السبت والثلاثاء وتصان المدرسة في الاجازة صيانة كاملة وتدهن داخليا وخارجيا حتى السبورة تدهن في الاجازة. كنت مشرفا على منزل الجزيرة (تقسم المدرسة لأربعة منازل رياضية تمارس جميع الالعاب) وكان منزلنا يسمى الجزيرة ، كان لكل منزل مخزن (ادوات) رياضية ، كان عدد الكور لكل الالعاب لكل منزل أكثر مما لدى الهلال أو المريخ اليوم ، وكان لكل منزل زي رياضي مختلف يستورد من إيطاليا أو انجلترا ولكل منزل لون . أما المدارس الداخلية فحدث ولا حرج فهؤلاء يصرف لهم حتى الصابون والظهرة وصابون بوكيه للحمام ويأكلون ما لذ وطاب وآخر التيرم تزاكر القطر والبنطون لحدي اهلهم شفتو كيف. واستمر تعليمنا المجاني ونجحنا في امتحان الشهادة السودانية وقدمنا للقبول بالجامعات المصرية ولمجموعي العالي قبلت رغبة أولى طب بجامعة الأسكندرية وبرزت نفس المشكلة الأزلية ، مشكلة الفقر . هذه المرة تقدمت برسالة طويلة من صفحتي فولوسكاب لوزير التربية والتعليم اطلب فيها منحي (سلفة) شهرية تستقطع من راتبي بعد التخرج على أن ارهن قطعة الأرض التي نسكنها للضمانة واعطيت الوزير الحق في أن يلغي بعثتي حسب الاقرار الذي وقعناه بعدم مطالبة الحكومة السودانية أو المصرية بأي مصاريف وقلت له (فى حالة عدم مرافقتك على طلبي فألق بعثتي لأن الإمر سيان) وبعد أقل من اسبوع يأتي ساعي بريد (حكومي) بسيارة لانروفر حكومية يسأل عن بيتنا في شمبات فريق العرب وليس المنشية أو الرياض أو كافوري وسلمني رسالة من معالي الدكتور محي الدين صابر وزير التربية والتعليم بها ثلاثة اسطر يقول فيها سافر لمصر وسنكون على تواصل معكم. وبعد أقل من ثلاثة أشهر من وصولي الأسكندرية وجدت إعلانا بالبورد من مسجل الكلية ليسلمني رسالة رسمية (لقد تم ترشيحكم لبعثة دراسية وعليكم السفر لادارة الوافدين بالقاهرة) ومنذ تلك اللحظة حتى تخرجي كان لي مبلغ شهري وبدل كتب سنوي حتى تخرجي وتذكرة طيران عند تخرجي ، فقد أوفى الوزير الموقر الانسان الدكتور محي الدين صابر بوعد قطعه لطالب (نكرة) لا يعرفه ولم يدخل عليه بتوصية. موقف آخر اكمل مشواري التعليمي. جزاهم جميعا خير الجزاء. تذكرت كل ذلك وأنا ارى صورة الطلاب هذا الأسبوع وهو يطردون خارج كلية الطب ولن يعودوا ما لم يدفعوا المصاريف هل سمعت بذلك يا وزير مالية الغفلة . هل كنت ستطردهم لو كانوا من دارفور أم ستدفع لهم من (مستخقات سلام الغفلة في جوبا). خاتمة القصة أن جملة الميزانية أيام عبود كانت في ذلك العام 56 مليون جنيه سوداني (ما يعادل حوالي 170 مليون دولار). لكن كانت الحكومة smart government عدد وزرائها لم يتجاوز 12 وزير وكانت حكومة zero corruption خالية تماما من الفساد وكان الانفاق العام في غاية الترشيد، وفوق ذلك عملت الجنيد والقربة وامتداد المناقل وعشرات المشاريع التي يضيق هذا المجال لذكرها. أنهي مقالي دون أي تعليق واترككم متمحنين خاتين اليد على الخد . بلدنا ما كعبة كعبة بلوتنا ، الله يكفها كما كف عاد وثمود واصحاب الرس وقوم لوط.