مناوي: المدن التي تبنى على الإيمان لا تموت    الدعم السريع يضع يده على مناجم الذهب بالمثلث الحدودي ويطرد المعدّنين الأهليين    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    بالصورة.. "حنو الأب وصلابة الجندي".. الفنان جمال فرفور يعلق على اللقطة المؤثرة لقائد الجيش "البرهان" مع سيدة نزحت من دارفور للولاية الشمالية    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    القادسية تستضيف الامير دنقلا في التاهيلي    تقارير تتحدّث عن قصف مواقع عسكرية في السودان    بمقاطعة شهيرة جنوب السودان..اعتقال جندي بجهاز الأمن بعد حادثة"الفيديو"    اللواء الركن"م" أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: الإنسانية كلمة يخلو منها قاموس المليشيا    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالفيديو.. عودة تجار ملابس "القوقو" لمباشرة البيع بمنطقة شرق النيل بالخرطوم وشعارهم (البيع أبو الرخاء والجرد)    شاهد بالصورة.. السلطانة هدى عربي تشعل مواقع التواصل بلقطة مثيرة مع المطربين "القلع" و"فرفور" وساخرون: (منبرشين فيها الكبار والصغار)    مانشستر يونايتد يتعادل مع توتنهام    ((سانت لوبوبو الحلقة الأضعف))    شاهد بالصورة والفيديو.. حكم راية سوداني يترك المباراة ويقف أمام "حافظة" المياه ليشرب وسط سخرية الجمهور الحاضر بالإستاد    شاهد بالفيديو.. مودل مصرية حسناء ترقص بأزياء "الجرتق" على طريقة العروس السودانية وتثير تفاعلا واسعا على مواقع التواصل    بالصورة.. رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس: (قلبي مكسور على أهل السودان والعند هو السبب وأتمنى السلام والإستقرار لأنه بلد قريب إلى قلبي)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    شاهد بالفيديو.. "بقال" يواصل كشف الأسرار: (عندما كنت مع الدعامة لم ننسحب من أم درمان بل عردنا وأطلقنا ساقنا للريح مخلفين خلفنا الغبار وأكثر ما يرعب المليشيا هذه القوة المساندة للجيش "….")    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بالصور.. أشهرهم سميرة دنيا ومطربة مثيرة للجدل.. 3 فنانات سودانيات يحملن نفس الإسم "فاطمة إبراهيم"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    عقد ملياري لرصف طرق داخلية بولاية سودانية    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كلام مظلوم ووجه ظالم!
نشر في الراكوبة يوم 16 - 03 - 2023


الاثنين
قبل عشرين عاماً، وعلى حين كانت "مفاوضات نيفاشا" للسّلام بين النِّظام البائد وبين الحركة الشعبيّة لتحرير السُّودان بقيادة الرّاحل جون قرنق، تقترب من نهاياتها، أثار قلقي، بوجه خاصٍّ، تقريران صحفيّان، بفارق زمني لم يتعدّ الأسبوع، حول حدث استثنائى كان يجري، وقتها، فى جبال النُّوبا، وهو إحلال الانجليزيّة محلّ العربيّة "لاحظ: الانجليزيّة لا إحدى اللغات النُّوباويّة!"، ليس في التّعليم فحسب، وإنّما في التّخاطب أيضاً lingua franca، حتى بتُّ أخشى:
أ/ أن عدم حسمنا، نحن جماعة المستعربين المسلمين، لصراعاتنا، كجماعة اثنيّة محتكرة للسُّلطة السِّياسيّة في البلاد، تاريخيّاً، حول تصوُّراتنا المتباينة ل "المشروع الوطني"، وعدم استقامتنا على صراط التّعدُّد المتوحِّد بين مكوِّناتنا، في المقام الأوّل، قبل أن نتفاوض مع الأغيار على "السّلام"، ينفي عنّا أيّ تأهُّل لترتيب هذا التّساكن المتنوِّع؛
ب/ أن الأغيار أنفسهم ربّما كانوا أعمق توحُّلاً مِنّا فى هذا المأزق التّاريخي، لجهة ما يعاني عنصر "المكوِّن الثّقافي" لديهم من ضعف مزمن فى الوعي بذاته (عبد الله على ابراهيم، 2001م)،
ج/ أن ما ينشغل به طرفا التّفاوض في "نيفاشا" ليس هو، بالتّالي، الأمر الأكثر خطورة، إذ الأخطر، في الحقيقة، هو انغماسهما في حسابات تجارة "المفرّق" بشأن "السُّلطة والثّروة"، فيفرِّطان في "الوحدة الوطنيّة"، عن قصد أو غفلة!
كلا التّقريرين من كاودا، عاصمة "الأراضي المحرّرة": الأوّل لأنتونى مورلاند، مراسل (AFP)، بتاريخ 29/11/2003م، حول "اللغة كقضيّة سياسيّة في جبال النُّوبا"، حيث كانت المدرسة الابتدائيّة وحدها تكتظ بأكثر من 560 تلميذاً بين الخامسة والعاشرة، عدا دفعة كاملة من60 مدرِّساً يجرى تدريبهم ضمن البرنامج الجّديد لإحلال الانجليزيّة محل العربيّة! أمّا التّقرير الآخر فلمراسل (الواشنطن بوست)، في 16/12/2003م، بعنوان "عائقٌ لغوىٌّ فى طريق السّلام"، يصف مشهد التّلاميذ يتدفقون، مع الفجر، من قمم التِّلال المُعشِبة، في ظلِّ وقف إطلاق النّار، سيراً على الاقدام، ساعة أو ساعتين، قاصدين مدرستهم الجّديدة، حيث ينتظرهم، على سبُّورةٍ داخل كهف طيني، عنوان الدّرس الصّباحىِّ: "Ethnicity الاثنويّة"!
لم يستغرب مورلاند للطبيعة السِّياسيّة للدّرس المشمول بكتاب مدرسيٍّ معتمد من الحركة، بقدر ما استغرب للغة الدّرس: الانجليزيّة! فمع اقتراب الشّماليِّين والجّنوبيِّين من توقيع سلام نهائي، بدت له لغة الوسط بمثابة مشكلة تستوجب التّعاطي معها بجديّة. فسكّان الجِّبال يتحدّثون العربيّة "عبر قرون من تجارة الرّقيق والتّهجير القسري"، ومع ذلك يرون أنهم أقرب، إثنيّاً وثقافيّاًً، إلى الجّنوب "الذى تسود فيه الانجليزيّة منذ أيام الادارة البريطانيّة"! لذا فإن النُّوبا في مناطق الحركة، وعددهم 400,000 نسمة، اختاروا الانجليزيّة، بحسب التّقرير، لغة للتّعليم والتّخاطب بدل العربيّة!
وينقل المراسل عن المرحوم سايمون كالو، مدير التّعليم في الاقليم، آنذاك، قوله: "النّقلة تمّت برغبة كلِّ النُّوبا، نحن أفارقة ولسنا عرباً، وسوف نبنى السُّودان الجّديد، ونقرِّر مصيرنا"! ويعلِّق المراسل بأن "النقلة" تحظى، فعلاً، بتأييد واسع ".. فكلُّ الذين تحدّثتُ إليهم شدّدوا على أنهم يعتبرونها خطوة نحو تقرير وضعهم الجّديد (بانفصال) عن الشمال"! ويستشهد في ذلك بتعلق آمنة اسماعيل (18سنة) بتعلُّم الانجليزيّة "فالكلام بالعربيّة يؤلمني لأنها ليست لغتي"! كما يستشهد بتشدُّد عائشة محمود (24 سنة) قائلة: "إذا مُنِعنا من تعلُّم الانجليزيّة، فسنعود للقتال"!
وينقل التّقرير عن أليكس دي وال، مدير منظمة (أفريقيا العدالة Justice Africa) ومؤلف كتاب (نوبا السُّودان فى مواجهة الابادة الجّماعيّة Facing Genocide: The Nuba of Sudan)، قوله: "من المفهوم الانتقال للانجليزيّة فى هذا المنعطف من تاريخ هذا الشّعب، ضحيّة التطهير العرقي المنهجي. لقد رسبت الآثار السّالبة للجِّهاد، والتّهجير الجّماعى .. في وعي هؤلاء الناس بعمق". ويعقِّب المراسل بأن نسبة 20% من النُّوبا مسلمون، لكنهم يعارضون النّموذج الاسلامي الذي فرضته الحكومة منذ التِّسعينات. ويعضِّد قوله بشكوى الامام آدم عطرون من قصف جيش المسلمين الشّماليِّين لمسجده فى كاودا ".. فالشّماليُِّون يضطّهدوننا لأننا سود، ولذا أريد لأطفالي أن يتعلموا الانجليزيّة"!
أما مراسل (FPI) فقد اهتم بالطابع السِّياسي لقرار الحكم المحلي للحركة فى 2001م، باعتماد الانجليزيّة بدل العربيّة! واستشهد بقول سايمون كالو لمجموعة صحفيِّين أجانب، بأن النِّظام التّعليمي القديم كان يهدف، بالأساس، للتّعريب والأسلمة، ".. لقد أسلمت أنا نفسي عندما كنت تلميذاً وغيّرت اسمي لإسماعيل، وإلا لما كنت أكملت تعليمي"! ويروي أن الحرب تسبّبت في قفل المدارس لسنوات طوال، وما أن فتحت بعد وقف إطلاق النّار سنة 2002م، حتّى أقبل عليها الصِّغار والكبار. لكن المشروع اصطدم بنقص المعلِّمين المحليِّين "فاضطررنا لاستقدام عشرات المعلِّمين الكينيِّين واليوغنديِّين"! وينقل مورلاند، أيضاً، عن دانيال كوكو، المعلِّم المستقبلي الذي ألحق بدورة تدريبيّة بمساعدة اليونيسيف، قوله: "لا نريد العربيّة بعد اليوم. إنها لغة العرب وليست لغتنا. أما الانجليزيّة فيتكلمونها في كلِّ العالم، فتستطيع مخاطبة أىِّ إنسان بها"!
أهمُّ ما في تقرير مورلاند الجّانب المتعلِّق بمنهج "التّربية الوطنيّة" الجّديد، وهدفه تصحيح "المفهوم الخاطئ" عن السُّودان الذى يُصوّر شماله كتابع للعرب المسلمين، وجنوبه للأفارقة المسيحيين. وعندما سأل الصّحفيُّون معلِّماً يستخدم كتاب الحركة إن لم تكن هذه المواضيع سياسيّة بما لا يتناسب وتلاميذ الابتدائي، أجاب بتلقائيّة: "طبعاً سياسيّة، وإلا لما أسموها تربية وطنيّة"!
سيقبض من يشاء على المراسلين متلبسين بالتناقض، و"الغرض" الذى هو "مرض"! وسيجد، بلا شك، صيداً وافراً من الفبركات فى ثنيّات الحقائق المقبولة عقلاً في ضوء مظالم الهامش عبر التّاريخ، إضافة لبعض الألفاظ الموضوعة، بتعمُّل، على ألسُنة النُّوبا، وبعض النّتائج التى تمّ ترتيبها على مقدِّمات ليست من جنسها! غير أن ما ينبغى أن نسمعه ونعقله هو أمر آخر. فالمؤسف أن كلّ هذا يظلُّ غير كافٍ لدحض صدقيّة الجِّذر الأساسى للتّقريرين، وهو تحويل اللغة العربيّة وحمولتها من ثقافة المستعربين المسلمين، على يد تيّارهما "السُّلطوي/التّفكيكي"، إلى أسلحة للاستعلاء بهما، كما وبالدِّين والعِرق، على المساكنين الأغيار، مِمّا لا يلبث أن يرتدُّ إلى نحري هاتين اللغة والثّقافة! ولعلّ من أكثر مشاهد التأكيد على هذا المآل ما أضحت تعانيه هاتان اللغة والثّقافة من اهمالٍ وضآلةِ، في التّعليم، والاعلام، والصّحافة، مثلاً، وسط الأجيال الجّديدة من أهلهما أنفسهم، والذين يبدو أن أغلبهم تركهما، تماماً، للتّيّار "السُّلطوي/التّفكيكي" يشبعهما ركاكة، وتنطعاً، وسوء استخدام، حتّى ليكاد الآن يُغطِس حجرهما نهائيّاً، ويفقرهما لأدنى مقوِّمات المناعة إزاء شتّى المخطّطات الخارجيّة التي تستهدف جعلهما ثغراً تؤتى من قِبلِه، ليس، فقط، أشواق "الوحدة الوطنيّة"، بل و"وجود" الجّماعة المستعربة المسلمة ذاتها، كأهمِّ مفردات التّعدُّد السُّوداني، بصرف النّظر عن درجة وضوح أو خفوت هذا الاستهداف، بعد أن تبيّن أن أغلب المعلمين النُّوبا، المتحمِّسين لبرنامج التّدريب الجّديد، لا يفقهون الكثير عن الانجليزيّة (!) حتّى لقد أضحت العمليّة أشبه ما تكون بإعادة إنتاج "المشهد التّبشيري" الذي ساد مطالع القرن الماضي، سوى أنه، هذه المرّة، "تبشير باللغة"! وهذا بالضبط ما أفصح عنه ريدينتو لاروكو، مدير المدرسة اليوغندي المتقاعد، والمنتدب للمساعدة في برنامج التّدريب، بقوله لمراسل (الواشنطن بوست): "يعترينى إحساس (المبشِّر) أثناء عملي هنا فى تدريس الانجليزيّة .. لكننى أعتقد، على أيّة حال، أن هذا ما يريده الناس فعلاً"!
فهل "هذا فعلاً ما يريده (جميع) النّاس"، أم هي "عربيّتنا" التّعيسة هذه حسبناها ربتْ في ألواح "الخلاوي"، وطمحت من أخراج "الجّلابة"، فاستقرّت على ألسنة "المُساكنين"، مشروع وحدة لا تطمر ل "الثّقافة" تفرُّداً، وأداة تواصل لا تقطع ل "اللغات الأمّهات" رحماً، فإذا بنا نصحو، آخر الليل، على آخر كابوس يُمكننا توقَّعه، وهو انقلاب هؤلاء "المساكنين" يركلونها، ركل الحصاة على قارعة الطريق، ويكشطونها كشط الشّخبطة من جدار عتيق، ويثفلونها كما تُثفل لطعة الدّم من حلقوم جريح، فمن ذا الذى يجب أن يُساءل عن هذا المآل: تيّار الاستعلاء من سلطنة "الككر" إلى سلطة "الاسلام السِّياسي"، يتوهّم قدس الأقداس فى "تعريب" الآخرين و"أسلمتهم"؟! أم تيّار الغفلة عن استحقاقات "السّلام"، من "أنيانيا ونْ" إلى "الحركة الشّعبيّة"، يتوهّم أن "استعلاء الجّلابة" لن ينثلِم بغير "استعلاء مضاد"، حتى لو اقتضى الأمر الاستقواء بعامل "خارجي"، سياسة كان، أم ثقافة، أم .. لغة؟!
الثُُّلاثاء
بما أن الدّولة السُّودانيّة لم تعد "فاضية"، منذ ما بعد تحقيق الاستقلال السِّياسي، كي تهتمّ بأمر أيّة جماعة قد تكون في حاجة إلى رعايتها الخاصّة، تاركة الأمر برمته لعناية السّماء والمجتمع المدني، فإنني، كمريض بالسّكّر، أتوجه بالسُّؤال إلى الصّديق ياسر، ابن الصّديق، ورفيق "بيوت الأشباح" الموحشة ميرغني عبد الرحمن، كما وإلى الصّديق نصر الدِّين شلقامي، رفيق الدِّراسة بالمعسكر الاشتراكي العظيم، رعى الله أيّامه، عن حقيقة ما نُشر، وما لم تنفه "الامدادات الطبِّيّة"، بحسب علمي القاصر، متمنِّياً أن أكون مخطئاً فتصحِّحني الأخيرة، أو توضِّح الأمر على الأقل، وذلك حول إيقافها استيراد "الأنسولين" الأصلي من مصدره، بينما أضحت تستورد غير الأصلي من مصادر أخرى، فما مدى صحّة هذا الخبر؟! وما سببه إن كان صحيحاً؟!
الأربعاء
أوردت تقارير صحفيّة أن ماريو تيران توفي خلال فبراير المنصرم (2023م) عن عمر يناهز الثّمانين عاماً. وهو الجُّندي البوليفي الذي ضغط على زناد بندقيّته عام 1967م، فأطلق رصاصة أعدمت أرنستو تشي جيفارا، القائد الأرجنتيني بالمواطنة، الكوبي بالثّورة.
وقال غاري برادو، الجنرال البوليفي المتقاعد، والذي كان مشرفا على المجموعة التي اعتقلت جيفارا، بعد أشهر طويلة من الملاحقة، وفيها تيران، "إن الأخير كان رقيباً في الجّيش، وما قام به كان تنفيذاً لأمر عسكري تلقّاه، وقد فارق الحياة، مؤخّراً، بعد صراع طويل مع المرض،ً تاركاً زوجة وولدين".
الخميس
ثمّة ملاحظات أساسيّة ترِد، ولا بُدّ، على أيّة تّجربة تصعيديّة لدعوة الحركة الجّماهيريّة لخوض "عصيان مدني". فعلى الرُّغم من القيمة غير المنكورة لهذه الدّعوة، وما يصيب النُّظم الشُّموليّة من ارتباك لا يخفى، كلّما انطرحت، إلا أن ذلك غير كافٍ وحده لتقرير نجاحها في زعزعة أعمدة مثل هذه النُّظم، في كلِّ مرّة، وبأيّة درجة من الحسم. لذا يتعيّن على المعارضات، قبل الإقدام على الخطوة التّالية، أن تعمل على دراسة تجاربها السّابقة،لاستخلاص الدُّروس والعبر!
ولعلّ أبرز هذه الملاحظات أن تلك التّجارب، خصوصاً الفاشلة منها، وإن اتّسمت بالجُّرأة والبسالة، ترك الغموض حول أساسيّاتها، مع ذلك، أثراً سالباً تمثّل في تفاوت الاستجابة لها، ما بين المستوى العالي من التّنفيذ في السّاعات الأولى، ما يؤكِّد الرّغبة الأصيلة لدى الجّماهير في التّجاوب، وبين انحسار هذا المستوى تدريجيّاً في بقيّة ساعات اليوم، ثمّ التّراجع النِّسبي خلال الأيّام التالية ما يستوجب التّدقيق في العوامل والأسباب، مع التّفريق، أثناء هذا التّدقيق، بين البحث الموضوعي وبين النّشيد الحماسي!
أهمُّ دروس الثّورة السُّودانيّة تشير إلى أن تحقُّق هذا النوع من التّصعيد النّوعي يعتمد على توفُّر شروط أساسيّة:
أولاً: لا بُدّ أن تصل مواجهة الجّماهير للسُّلطة درجة من الوسع، والعمق، والقوّة، تتيح، في لحظة بلوغ الأزمة الثّوريّة قمّة نضجها، طرح هذا التّصعيد كخطوة أخيرة، لا كخطوة أولى، ومن داخل مختلف الحراكات الاحتجاجيّة الجّاذبة للمزيد من القطاعات العفويّة، لا الاقتصار على تكرار نفس الكيانات السِّياسيّة، أو المدنيّة، أو المهنيّة، إلى جانب توسيع هذا التّصعيد مكانيّاً، بما يشمل حتى أزقّة الأحياء السّكنيّة، لا مجرّد تكرار التِّظاهر في كبريات الشّوارع والمواقع، فضلاً عن تواصله لأيّام بلا انقطاع، بما في ذلك الفترات المسائيّة!
ثانياً: يجب أن تكون الجّماهير متيقِّنة من الجِّهة الطارحة للتّصعيد، عبر عُشرة وثيقة معها، وثِّقة أكيدة فيها، وآصرة متينة ومتّصلة، تاريخيّاً، مع "نضالها" السِّياسي، كأساس لاستقبال ما ترفدها به من شعارات! فلا تكون هذه الجِّهة محض جماعة من النّكرات جرت لملمتها بليل للحاق بالأزمة، على طريقة "إن هي إلا أسماء سمّيتموها"، كما لا يكفي تقديمها كمجرّد "مجموعة نشطاء حقوقيين وسياسيين" .. الخ! هذا أمر شديد الحسم بالنِّسبة لسايكولوجيّة الجّماهير، بل قد يساوي، وحده، نصف عوامل الانتصار.
ثالثاً: لا غنى عن علم الجّماهير الكافٍي بالهدف النِّهائي من التّصعيد end game. فعدم وضوح الرُّؤية، منذ البداية، حول الهدف النِّهائي، وما ينبغي عمله في "اليوم التّالي" للانتصار the day after، هو من أخطر المعاول التّدميريّة للحراك!
غياب هذه الشروط، مجتمعة، يولِّد البلبلة، خصوصاً في المراحل النِّهائيّة التي تحسم سؤال ما بعد إسقاط النِّظام، فيُبقي الثّورة تراوح، عبثاً، بين طابعين ،"راديكالي" و"إصلاحي"، وهذا ما جرى لثورة أكتوبر 1964م، وانتفاضة أبريل 1985م، ريثما قفز النِّميري والبشير إلى السُّلطة، ليقلبا مائدة الدِّيموقراطيّة على الجّميع، في مايو 1969م، ويونيو 1989م، بل هو، للأسف، عين ما يجري حالياً لثورة ديسمبر المجيدة!
ويجدر التّنويه، في السِّياق، بأن الشُّموليّة لم تنتظر، في أيّة مرّة، حتّى تتآكل الثّورة ذاتيّاًً، قبل أن تنشب أظفارها المسمومة في عنقها، وإنّما بادرت بالاستخدام المبكِّر، منذ اليوم الأوّل، لأخطر أسلحتها طرّاً: التّشكيك المتكرِّر والمستمر في جدوى وجدارة "الأحزاب"، الدِّينمو السِّياسي المولِّد للفاعليّة الثّوريّة، والتّرويج لمعاداتها، ولوجوب تجاوزها. يفاقم من ذلك، ضغثاً على إبالة، ما يتمُّ تداوله، عبر الاعلام الخادم للشُّموليّة، من فبركات في صورة الحقيقة، وما يتولّد عنها من انطباعات خاطئة في الكثير من وسائط التّواصل التي تزعم الدّعم ل "دعوة العصيان"، وهي، في واقع الأمر، تحفر لطمر جدواها منذ اليوم الأوّل!
ولا يفوتنا أن نؤكِّد، قبل أن نضع النُّقطة في نهاية السّطر، أن هذا لا يشمل، بطبيعة الحاًل، أيّ نقد مستقيم لهذه الأحزاب أو قياداتها، فهو مشروع جدّاً، بل ومطلوب بشدّة، على العكس من محاولة شطب هذه الأحزاب، أو انكار ضرورتها، فتلك جريمة مؤكّدة بحقِّ الدِّيموقراطيّة.
الجُّمعة
ما أشدّ التأذِّي من لحن المذيعين والمذيعات في جهازي الرّاديو والتِّلفزيون، وأفظعه ما كان على صعيد "النّحو"!
جالت بذهني هذه الخاطرة لمّا أهدتني "دار عزّة للنّشر"، مشكورة: كرّاسة "إعراب الشّواهد الشِّعريّة وشرح غريبها في التّوضيحات الجّليّة للشّيخ محمّد الهاشمي على المقدِّمة الأجروميّة ويليه شرح الجُّمل التي لها محلٌّ من الاعراب والتي لا محلّ لها من الاعراب" لمصطفى يونس حمّاد، فوجدتها، بالفعل، وبرغم صغر حجمها (75 صفحة من الحجم المتوسِّط)، تجعل لعشّاق "النّحو" ألف سبب ليتيهوا به غراماً.
وما أصدق قول الشّاعر: "لو تعلمُ الطيرُ ما في النحو من شرفٍ/ حنتْ وأنتْ إليه بالمناقيرِ/ إن الكلام بلا نحوٍ يُماثلُهُ/ نبحُ الكلابِ وأصواتُ السنانير"!
السّبت
بالأحد 19 فبراير 2023م، بمدينة جوبا، وأثناء التّوقيع على "المصفوفة المحدثة لتنفيذ اتِّفاق سلام السُّودان"، طلب مقدِّم الحفل، على الهواء مباشرة، من فريق الشّباب القائمين على تنفيذ البرنامج فنِّيّاً، بثّ أغنية وطنيّة، كخلفيّة لمشهد التّوقيع، فتفتّق ذكاء هذا الفريق عن استغلال الفرصة لتذكيرنا بعوارنا الثّقافي الذي ورّطنا في كلِّ هذه الحروب الأهليّة، وقد انطفأ بعضها ب "الانفصال"، بعد أن أهدر ملايين الأرواح، وقضى على الأخضر واليابس، وما زال بعضها الآخر ينتظر الإطفاء!
هكذا اختار ذلك الفريق مغنِّية شجيّة الصّوت من جونقلي، عهد إليها بأن تتوجه إلى كلِّ العالم، والحفل منقول عبر سماوات مفتوحة، وبوجه خاص إلى شعوب الفور، والزّغاوة، والمساليت، والبجا، والفولانيِّين، والنُّوبا، والنُّوبيِّين، وغيرهم، مِمّن لا تكفُّ المناشدات عن حثِّهم، صباح مساء، على الانضمام إلى "اتِّفاق السّلام" و"مصفوفة تنفيذه"، وممثِّلو بعضهم متحلِّقون، فعليّاً، حول طاولة التّوقيع، فانطلقت تلك المغنِّية تؤدِّي أنشودة الموسيقار المغني البارع العطبراوي، والمستعرب المستعلي الفذ محمّد عثمان عبد الرّحيم، والتي تنسب السُّودانيِّين "أجمعهم" إلى إثنيّة واحدةُ، مادحة لأمجادهم، ومتجاهلة لسواهم: "دوْحةُ العُرْبِ أصْلُها كرمٌ/ والى العُرْبِ تُنْسبُ الفِطنُ"!
الأحد
تخاصم رجل وامرأته إلى أحد أمراء العراق، وكانت المرأة حسنة المنتقب (أي جميلة النِّقاب)، لكن قبيحة الملامح، وفوق ذلك سليطة اللسان على زوجها، فقال الأمير، وقد مال إلى صفِّها قبل أن يرى وجهها:
"ما بالكم أيّها الرِّجال، يعمد أحدكم إلى المرأة الجّميلة فيتزوّجها، ثمّ يسيء إليها"!
فما كان من الزّوج إلا أن انقضّ على النِّقاب، وأسقطه، على حين غرّة، فمّا أن رأى الأمير وجهها، حتى صاح مرتعداً:
"عليكِ لعنة الله، كلامُ مظلومٍ ووجهُ ظالمٍ!
***


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.