يشكّل إعلان تركيا ومصر رفع العلاقات الدبلوماسية لمستوى "السفراء" خطوة متقدمة على طريق التقارب الذي بدأه البلدان منذ أكثر من عامين، ويعطي مؤشرا على "اختراق ما" حصل على صعيد الملفات الخلافية التي كانت تشكّل حجر عثرة، بعدما حاول الطرفان تبديدها أولا ب"محادثات استكشافية"، وفق مراقبين. وقالت الخارجية المصرية، في بيان الثلاثاء، إن القاهرة رشحت السفير عمرو الحمامي سفيرا لها في أنقرة، بينما رشحت تركيا السفير صالح موتلو شن سفيرا لها في القاهرة. وأضاف البيان أن "الخطوة تهدف إلى تأسيس علاقات طبيعية بين البلدين من جديد، كما تعكس عزمهما المشترك على العمل نحو تعزيز علاقاتهما الثنائية لمصلحة الشعبين المصري والتركي". من جهتها أفادت الخارجية التركية في بيان بالتزامن بأن "رفع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين جاء تماشيا مع قرار اتخذه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي". وبالفعل كان إردوغان والسيسي قد مهدا إلى "التعيين المتبادل للسفراء"، أواخر مايو الماضي، خلال اتصال هاتفي قدم فيه الأخير التهاني للأول بعد فوزه بولاية رئاسية ثالثة. كما مهدا إلى "انعطافة مرتقبة في العلاقة المجمدة" بعدما اجتمعا في العاصمة القطرية الدوحة، في نوفمبر العام الماضي، على هامش حفل افتتاح المونديال، وهو اللقاء الأول بين الزعيمين، منذ انقطاع العلاقة في 2013. "آخر المحطات" وعلى عكس ما طرأ على علاقة تركيا بالإمارات وإسرائيل والمملكة العربية السعودية، واجه المسار الخاص بمصر خلال العامين الماضيين عقبات عدة جعلت الوقت يمر ببطء، لاعتبارات تعلقت بطبيعة الملفات الخلافية بين الجانبين. وتصدرت هذه الملفات "قضية جماعة الإخوان المسلمين" الذي يتواجد أعضاؤها في تركيا، وتضارب المصالح الحاصل في الساحة الليبية، وفي منطقة شرق المتوسط. لكن، ومنذ شهر مايو 2021 خاضت كل من أنقرةوالقاهرة "محادثات استكشافية" وجرت على مرحلتين، كان آخرها في سبتمبر من العام ذاته. وبينما ناقش مسؤولو البلدين ما يعترض بلديهما من خلافات، بقي المسار ضمن إطار التصريح و"ضرورة تقديم خطوات فعلية". بعد ذلك تطورت العلاقة لتصل إلى اللقاء على مستوى الخارجية، وصولا إلى الخطوة القطرية التي تكللت ب"المصافحة التاريخية" في الدوحة بين إردوغان والسيسي. وشكّلت هذه المصافحة "محطة" اختلف ما بعدها جذريا عما قبلها، سواء على مستوى التصريحات أو الخطوات التي من المقرر أن تصل في الأيام المقبلة إلى نقطة لقاء الرئيسين المصري والتركي بشكل رسمي ووجها لوجه، حسب وسائل إعلام تركية. وبعدما طرحا فكرة "تعيين السفراء" في أعقاب تبادل التهاني بعد فوز إردوغان بالولاية الرئاسية الثالثة، كان السفير الحالي صالح متلو شين أعلن، في السابع عشر من يونيو الماضي، أن الأخير وجه دعوة للسيسي لزيارة تركيا. ومن غير الواضح ما إذا كانت أنقرةوالقاهرة قد تمكنتا من تبديد كافة العقبات الخاصة بالملفات الخلافية. ومع ذلك، يعتقد مراقبون في حديث لهم لموقع "الحرة" أن الأمر قد يتم استكماله بشكل تدريجي وتباعا في المرحلة المقبلة، بالتزامن مع انفتاح الأبواب الموصدة بينهما شيئا فشيئا. ويرى الباحث السياسي التركي، هشام جوناي، أن المحطة الحالية للعلاقة بين القاهرةوأنقرة ب"تعيين السفراء" تأتي في إطار التغيّر الذي طرأ على السياسية التركية في الإقليم. ويقول لموقع "الحرة" إنه "من الواضح أن الانفتاح مع مصر يأتي في سياق هذه السياسة التي تطبقها أنقرة مع مختلف دول المنطقة". "تركيا تغيّر موقفها من الإخوان المسلمين خلال العامين الماضيين، وضغطت مؤخرا على إعلاميين معارضين للنظام المصري، في محاولة لإرضاء القاهرة"، وفق جوناي. وعلى مدى ست سنوات، بثت العديد من القنوات الفضائية المصرية المعارضة بحرية من تركيا، لكن الأمور تغيرت خلال الفترة الماضية، إذ طلبت أنقرة منها تخفيف حدة الانتقادات للنظام في القاهرة، ورحل بعضها فعلا عن الأراضي التركية. ويضيف جوناي أن "تولي حقان فيدان منصب وزير الخارجية سيعطي نتائج إيجابية فيما يتعلق بمسار الانفتاح الذي بدأته أنقرة مع دول المنطقة". ويوضح حديثه بأن الاستخبارات التي كان يرأسها فيدان سابقا كانت قد مهدت الطريق أمام عودة العلاقات. ولذلك "من المتوقع أن يعمل وزير الخارجية المعين حديثا على تسريع عملية التقارب في الأيام المقبلة"، كونه على اطلاع بتفاصيل جميع الملفات ومحطاتها. "قطعا نصف الطريق" وفي مؤتمر صحفي له مع نظيره الأردني أيمن الصفدي قال فيدان من أنقرة، الثلاثاء، إن "تركيا ومصر دولتان مهمتان لا يمكن أن تنفصلا عن بعضهما البعض بسبب العلاقات التاريخية والجغرافية والثقافية والاستراتيجية والدينية بينهما". وأضاف أن المحطة التي وصلت إليها العلاقة بين أنقرةوالقاهرة "بدأت بإرادة رئيسي البلدين"، وأن البلدين "تركا ورائهما مرحلة كبيرة من التطبيع". ويشير مدير تحرير جريدة "الأهرام" المصرية، أشرف العشري، أن "خطوة تعيين السفراء كانت متوقعة، منذ الاتصال الهاتفي الأخير بين إردوغان والسيسي". واتفق الزعيمان على "ترفيع مستوى العلاقات بين البلدين". وجاء ذلك بعدما اتفاق كل من وزير الخارجية المصري سامح شكري ونظيره السابق مولود جاويش أوغلو في شهر رمضان على الدفع بالعلاقات. ويعتقد العشري في حديث لموقع "الحرة" أن "الخطوة الحالية تم الإعداد لها بشكل جيد بعد قطع نصف الطريق". ومع ذلك "لا تزال هناك قضايا عالقة في ليبيا وشرق المتوسط وملف أعضاء الإخوان والإغلاق الكامل للمنصات الإعلامية". ويضيف العشري أن "الملفات ورغم أنها عالقة، إلا أنها تخضع للحوار والنقاش غير المعلن بين البلدين". ويوضح أن "هناك اتفاق على المضي قدما لتسوية الملفات العالقة بعيدا عن الإعلام، ولكي لا يؤثر أي شيء سلبي على الحوار المتبادل"، وأن "هذه العملية قد تحتاج عاما على الأقل، من خلال الحوار المتبادل في القنوات الدبلوماسية والاستخباراتية". "اختراقات عديدة" ولأعوام، مثلت ملفات جماعة الإخوان المسلمين، وشرق المتوسط، وليبيا، القضايا الخلافية الأبرز بين القاهرةوأنقرة. ووقعت تركيا 2019 اتفاقيتين أمنيتين مع الحكومة التي تسيطر على غرب ليبيا، برئاسة فايز السراج حينها، ثم جددته مع حكومة عبد الحميد الدبيبة، وهو ما رفضته مصر. وأرسلت تركيا مستشارين عسكريين وطائرات مسيرة لمواجهة المشير خليفة حفتر الرجل القوي في الشرق الليبي المدعوم من مصر. وشملت الاتفاقيات أيضا مطالبة أنقرة بمناطق كبيرة وغنية بالغاز في شرق البحر المتوسط، مما أثار غضب اليونان وفرنسا والاتحاد الأوروبي. ويعتبر الباحث السياسي المصري، كرم سعيد، أن "رفع العلاقات الدبلوماسية يؤشر إلى أن فرص التقارب وتعزيز العلاقات باتت أوفر، وأن ما حصل لم يكن وليد اللحظة، بل بناء على عدة اختراقات". وعلى رأس هذه الاختراقات "الأزمة الخاصة بالساحة الليبية"، وفق سعيد. ويقول لموقع "الحرة": "على مدى العامين الماضيين توصلت أنقرةوالقاهرة إلى نقاط كبيرة في الملف الليبي أولها إجراء انتخابات تضمن تمثيل كل الأطراف في الداخل". كما توصلتا إلى "تأسيس قوة عسكرية موحّدة وقوة لحماية الحدود"، واتفقتا على أن "يكون كل طرف حريص على مصالح الآخر". وفيما يتعلق بملف "الإخوان"، يرى سعيد أن "تركيا قطعت شوطا على صعيد هذه القضية، سواء بإغلاق المنصات الإعلامية أو إلزام بعضها بعدم انتقاد القاهرة". وتحدث الباحث عن "رفض أنقرة مؤخرا تجديد إقامات بعض أعضاء الجماعة ومطالبة آخرين بالبحث عن ملاذات جديدة". لكن ذلك لم يتم تأكيده من مصدر رسمي تركي، أو من جانب "الإخوان المسلمين" نفسهم. ويضيف سعيد أن التقارب بين البلدين من المتوقع أن تكون له انعكاسات من بينها "إيجاد بيئة لحل الأزمة في ليبيا". وتشمل الانعكاسات أيضا أن "تلعب القاهرة دورا وسيطا لحل القضايا الخلافية في شرق المتوسط بين تركيا واليونان وقبرص". في المقابل "ربما تلعب مصر أيضا دورا في مسار الحوار القائم حاليا بين تركيا والنظام السوري". "الخيط لم ينقطع" ورغم عزل الجيش المصري الرئيس السابق محمد مرسي الذي كان حليفا لإردوغان صيف 2013، لم تنقطع العلاقات وبقيت في مستوى قائم بالأعمال وسط استمرار التعاون الاقتصادي بشكل قوي وكافة المسارات الثقافية، حسب وكالة "الأناضول". ومع ذلك كان "الفتور وحالة القطيعة الأقرب للمكتملة" قد تصّدرت العلاقات السياسية" بينهما. بدورها تقول الخارجية التركية عبر موقعها بشأن العلاقات السياسية بين البلدين: "تم الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية بين تركيا ومصر بشكل متبادل على مستوى القائم بالأعمال منذ عام 2013، وعقدت اجتماعات قصيرة بين وزيري خارجية البلدين في مناسبات مختلفة، وتواصل سفارة مصر في أنقرة، وقنصليتها في إسطنبول، وسفارة تركيا في القاهرة، وقنصليتها بالإسكندرية أنشطتها دون انقطاع". كما "تم الحفاظ على الروابط الاقتصادية والاجتماعية العميقة الجذور بين البلدين، التي يدعمها تراث تاريخي مشترك، فيما لا يزال حوالي 3500 مواطن يقيمون في مصر، التي تعد أكبر شريك تجاري لتركيا في القارة الأفريقية فضلا عن عقد لقاءات متكررة بين رواد الأعمال الأتراك والمصريين"، وفق الخارجية. وفي يونيو 2016، قال رئيس الوزراء التركي آنذاك بن علي يلدريم، إنه لا مانع من تطوير العلاقات الاقتصادية بين تركيا ومصر وعقد لقاءات بين مسؤولي البلدين. وعاد يلدريم مؤكدا ذلك في أغسطس 2016: بقوله: "تؤيد تركيا تطوير العلاقات مع مصر"، تعليقا على حديث الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي إنه "لا يوجد أي أسباب للعداء بين شعبي مصر وتركيا"، والذي تلا ترحيب الخارجية المصرية، بأي "جهد حقيقي وجاد للتقارب مع تركيا". واستمرت العلاقات المصرية التركية على حالها، حتى لاح في الأفق تطور إيجابي، مع إجراء مصر وتركيا في مايو وسبتمبر 2021، أكثر من جولة ل"محادثات استكشافية" بينهما.