من هم أولاد البلد؟ يرى (المرحوم) الطيب مصطفى الوزير السابق وصاحب صحيفة الانتباهة الأكثر تشجيعا لانفصال الجنوب وقتذاك، أن الجنوبيين لا يشبهون بقية السودانيين من حيث العادات والتقاليد والأعراف والمعتقدات والألوان. فالبقية توجد فيهم درجة من الانسجام والتماثل والتطابق في الأشكال والألوان والتوافق في المعتقدات والأعراف.. وما يراه (الباشمهندس) ويراه معه آخرون كثيرون، لا يستند على أي أساس علمي، مع أن العلم لا يلغي التحيزات بل يعززها ويقويها ويمنحها البراهين التي تبدأ افتراضا ثم تتحول إلى نظريات وتصبح سلوكيات وسياسات، وإنما هو تداعي خواطر مضللة أملتها المواقف السياسية المرحلية وصورتها الأمزجة الذاتية والعاطفية والإنفعالية. والطيب مصطفى بحسب الإخوة الجنوبيبن، هو (حلبي) ولون الحلبي ليس لونا مناسبا ل(ود البلد) -حسب وصف العقل المهيمن- الذي يجب أن يكون من اللون المناسب والجهة المناسبة، فإن كنت فاتح اللون أكثر من اللازم فأنت حلبي وإن كنت داكنا أكثر من اللازم فذلك يعني أنك زنجي أو عبد. هل عزز انفصال الجنوب الانسجام؟ لا شك في أن رهان الطيب مصطفى (رحمه الله) كان رهانا على الحصان الخاسر، ليس لأنه كان يقوم على نوع من المغالاة وقصر النظر فحسب، ولكن لأن العوامل التي تؤدي إلى الاختلاف والافتراق والتجزئة والصراع ليس لها في كثير من الأحيان علاقة بالانسجام والتوافق والتماسك، فالخلاف والنزاع والافتراق يمكن أن يقوم حتى بين الذين تجمعهم روابط الدم والقرابة ما دام هناك أناس يملكون السلطة وآخرون لا يملكونها أو تم إقصاؤهم عنها. وهذا لا يقلل من مسألة العنصرية وثقافة الأصول التي تجعل كل من الشمالي والجنوبي في السودان القديم يؤمن بأن له موروثا وأن له خصائص تميزه وتترقى به لأن الحس العرقي والعزة والفخر مضمنة بصورة طبيعية في أعماق البشر. عنصرية الزنوج وإن كان أهل الشمال والوسط يظنون أنهم أرقى نسبا لأنهم ينحدرون من سلالات عربية فالزنوج يظنون أن العرب قد خرجوا من أصلابهم وانحدروا من سلالاتهم ومثل هذا الإدعاء كثير حتى عندما قامت ثورة الزنج في أمريكا كان الزنوج يقولون، إن الرجل الأبيض في أصله وصميم تكوينه هو زنجي لأن آدم كان زنجيا، والدينكا يزعمون أن روح (دينقديت) حلت على رجل اسمه محمد أحمد يسميه العرب المهدي وقد بايعه الدينكا -الذين يعتبرون أن جنسهم وثقافتهم هي النموذج الإلهي لبني الإنسان- لطرد الأتراك والمصريين الغزاة من السودان، مع ظنهم أن العرب هم دونهم بل هم أناس منحطون أخلاقيا لأنهم يتاجرون بالبشر ويصطادونهم كما يصطاد الحيوان، وإن مفهوم الرقيق في عرف الدينكا هو مفهوم عربي محض، وكل هذا يعد نوعا من الانحياز العرقي الذي يقوم على التمييز والمفاضلة بين البشر. الفور العباسيين والفور الذين عانوا من غزو عربان الصحراء، هم أيضا وكما تزعم قبائل سودانية كثيرة الانتماء للعرب و لآل البيت، فإن الفور أنفسهم يزعمون أنهم من بني العباس وجدهم سليمان صولون الذي انجبه أحمد بن سفيان المعقور من بنت السلطان شاو دور شيت الذي كان يحكم أمة من السود في جبل مرة. والمعقور، هو أمير من سلالة بني العباس التي كانت تحكم الرقعة الإسلامية من بغداد ..ومن سليمان صولون انحدرت سلالة الفور العباسية كأي قبيلة سودانية تذهب بنسبها بعيدا إلى العترة النبوية أو الصحابة رضوان الله عليهم أو من اتصل بهم من أهل العروبة والتقوى. ولكن مع اشتراك معظم السودانيين في هذا الإدعاء العروبي ونفيهم واستبعادهم لإصلهم الزنجي أو الحبشي حسب ما جاء في خطاب يوحنا لخليفة المهدي، بأن يقف معه الأخير في حربه ضد الأوروبين الغزاة لأن الأحباش والسودانيين ينحدرون من جد واحد خلافا للأوروبيين..إلا أن الخليفة تجاهل هذه الإشارات وأبى إلا أن يحاربه أو يسلم كما أسلم سلفه النجاشي من قبل، لكن يوحنا سخر من دعوة الخليفة ورأى أن هؤلاء الدراويش لا يعرفون معنى التعاون عندما يحيط بهم الإعداء.. ونخلص إلى أن المجتمعات المؤتلفة هي المجتمعات التي يجمعها العيش المشترك المبني على الاستقرار والنظام والتضامن الاجتماعي بصرف النظر عن خلفياتهم الثقافية والاثنية والعرقية ..وأن الاختلاف والتجزئة والصراعات والتقسيمات قد تنشأ حتى بين المجموعات التي تربطها رابطة دم وتنحدر من جذر واحد إن لم يرافق ذلك قرب يقوم على العيش والحياة المشتركة وتوزيع الأدوار وإداراتها..وليس ذهاب دارفور أو بقائها. [email protected]