السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البديل لرعوية النور حمد - التأخر الوراثي في السودان (5)
نشر في الراكوبة يوم 15 - 02 - 2017


( السياج البيولوجي )
منذ بداية علم الوراثة الحديث , عرفت أربع قوى تطورية كانت تجمل من الوجه العام للسلالات , وتطور من قواها وقدراتها وهي : الطفرة وهي تنتج أنماطا وراثية جديدة , وقلنا إن عملها وفاعليتها في العشائر السودانية ضئيل جدا , فعلى طول تاريخ التوالد والتناسل والأجيال ظلت هذه العشائر في مكانها من حيث الشكل والقدرة والذهن , ثم الانتخاب الطبيعي المساعد لعمل الطفرات في الانتشار والثبات والتقدم السلالي , وهي الآلية التي تختار بصورة تلقائية الأنماط الطافرة الأفضل تكيفا مع البيئة و ( الحضارة ) , ففي داخل بعض السلالات مهما تردت وانحدرت , توجد قوة جينية صالحة لابد أن تفعلها البيئة فلا يمكن أن تنشا مرحلة أفضل وأرقى سلاليا دون الطفرة من جهة والانتخاب الطبيعي وطرقه من جهة أخرى . ثم الانسياق العشوائي وهو التذبذبات العشوائية لتكرارات الجينات في العشائر , ثم الهجرة والتي تسمي أيضا بالتدفق الجيني , وكل هذه العوامل من بيئية وتاريخية بل من نمط العشائر الجيني نفسه , لا تلاحظ في تاريخ العشائر التي تكون السودان الحديث , وحتى الهجرات إلى هذه المناطق الجافة القاحلة أو الغنية الممطرة تحدث على استحياء , فلم تحدث هجرات ضخمة داخل إفريقيا كما حدثت في أوربا وآسيا , ولا نرى في التاريخ السوداني سوى هجرة دينية لبعض العلماء والشيوخ أو هجرات عسكرية ضئيلة العدد لا شأن لها بالتلاقح السكاني والتدفق الوراثي , أما الهجرات الكبيرة في التاريخ القديم والحديث تلك التي تستطيع أن تؤثر في التكوينات الوراثية بتدفق جيني يمكن دراسته وتتبعه فلم تحدث في أي جهة في السودان . لم يحدث التدفق الجيني في شرق السودان وهو مكان متاخم للبحر حيث كانت تزور موانيه الضيقة بعض الرحلات منذ قديم الأزمان ترسو ثم تواصل رحلاتها , ولم تحدث في الشمال حيث حكم الفراعنة زمنا دون أن يقتفوا النهر جنوبا وحتى عندما حكمت الأسر السودانية شمال الوادي فلم يؤثر عنها أنها قامت بهجرات تذكر , أو تساهم في تدفق سلالي , أو أنها كانت مقنعة من ناحية التناسل والتزاوج مع تلك الشعوب , فلم نسمع أن بعانخي أو تهراقا اتخذ زوجة أو جارية مصرية أو سورية أو أشورية أو يهودية على طوال المناطق التي انتصروا فيها وحكموها بالحديد والنار , وسريعا ما انطوت صفحة الفراعنة السود دون أن تترك أثرا جينيا مهما ثم تهاوت الممالك بعدهم تباعا لسيطرة السياج البيولوجي عليها مانعا إياها من رؤية التطورات الحضارية في العوالم القريبة منها , ثم انطوت بعدهم صفحة الإغريق والرومان الذين نظروا إلى هذا المناطق نظرة عسكرية مفرغة مجردة من التأثير الجيني تماما , ثم جاء محمد علي فطارد المماليك حتى دنقلا , وكانوا قد دخلوها بأعداد قليلة على عجل بمعيتهم بعض النساء الفارات معهم , وهم يتحينون الفرص في العودة إلى سابق عهدهم لحكم مصر بعد القضاء على محمد علي باشا الذي تعقبهم وأنهك قواهم فلم يتركوا أثرا سلاليا حتى اليوم أما القبائل المصرية الموجودة على الحدود الشمالية أو التي توغلت في أقاليم السودان فمازالت حتى اليوم تتزواج داخليا ضاربة حول نفسها سياجا جينيا صارما ينتج الأجداد من الأبناء مثلهم مثل الأقباط والشوام والإغريق وبقايا المصريين فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر , أما غرب السودان فلم يشهد في العصور القديمة هجرات تذكر ولم يشهد في العصر الحديث من الخارج سوى حملة الدفتردار التي قضت على المقدوم مسلم ثم عادت دون أن تترك بصمة وراثية وبسرعة , أما جنوب السودان فقد ظل مجهولا للعالم الخارجي حتى كشف الغطاء عنه زمن اكتشافات حوض النيل . السودان لا يعرف التدفق الجيني , ولذلك لا يعرف قوة الطفرات السلالية , ولهذا ظل عمل الانتخاب الطبيعي متوقفا لسلالات تلد بعضها باستمرار لسنوات طويلة . انعكس هذا على العقلية العلمية وضعف النخبة الفكري الذي يمثل هذه السلالات الراكدة .
هل ما نحن فيه الآن من التردي الحضاري والمؤسسي سببه ما اكتشفه العرب قديما في سلالاتهم وأنجالهم بل وحيواناتهم من الضعف والهزال والمرض والموت المبكر الذي كان يسببه زواج القرابة الذي شاع بينهم لقرون فدعوا في أزمان تنويرهم الثقافي الذي بدأ قبل الإسلام إلى تجنب القرابة القريبة في الزواج ؟ وشاعت الفكرة أيضا في الإسلام الذي حملها إلى قرون لاحقة , فأخذت الفكرة من التاريخ الاجتماعي , بل والرعوي العربي الفصيح والنوراني , ومنحت مصداقية وشرعية نبوية في عبارات موجزة سهلة الحفظ والترداد والسيولة , فقال نبي الإسلام لا تنكحوا القرابة القريبة , فإن الولد يُخلق ضاويا , أي هزيلا منعدم النجابة , قليل النخوة , ضعيف الإرادة , والأخلاق , والمروءة , لا خير فيه لأسرته أو قبيلته , وعززت هذه الفكرة كثيرا بصدورها من أفواه عدة متجسد الشرعية الدينية والعقلية , فورد في إحياء علوم الدين قول الغزالي إن عمر بن الخطاب قال : " يا بني السائب إنكم قد أضويتم فأنحكوا في الغرائب , وهم الذين لا قرابة بينكم وبينهم " . ولو لم تنتشر الأجيال الضعيفة في السلالات العربية القديمة حتى شكلت ظاهرة تحتاج إلى المعالجة لما أسندت أفكار زواج القرابة والإضواء إلى نبي يقول أنتم أعلم بشئون دنياكم , فقد درج المسلمون على إخراج كل شيء مهم من العلم إلى الدين حتى صار الدين علما , وبهذا لم تستطع العلوم شق طريقها لوحدها , وفصلها عن بعضها البعض ولم تسمح هذه الوحدة ( الوحدانية ) بخلق علوم جديدة .
كانوا أيضا كما يقول علم الوراثة الحديث يعلمون أن تداخل النسب قد يضعف النسل , وهذا الأمر حتم عزلتهم الاجتماعية , وساهم كما ساهم في كل مكان دخلته التقاليد العربية على رايات الدين على تعزيز الفواصل القبلية والعرقية بين العشائر , وساد أكثر من دعوات الإسلام بأن البشر إخوة , وأن عليهم واجب التعارف بين قبائلهم وشعوبهم . فوقفت الاعتقادات الجنسية المجربة عنصريا أمام إنسانية الأديان ومبادئها وتبشيرها .
أما هذه النظرة العنصرية للسلالة فيمكن أن نضرب لها مثلا ببلال بن رباح
قال جرير في بلال ( الزنجي ) الذي قدمه على أعراب زمنه سلاليا :
إنَّ بلالاً لم تشنْهُ أمهُ
لم يناسبْ خالُهُ وعمهُ
فقد كان مولدا من مولدي الحجاز كما جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد , أمه حبشية كانت مملوكة لبني جمح اسمها حمامة , ولا يستدعي ذلك أنها كانت سوداء كما جاء في الآثار الإسلامية . وورد أنه كان آدم شديد الأدمة , نحيفا , طوالا , أجنأ ( له انحناءة على كاهله ربما من الطول الشديد ) , له شعر كثير ( لا يتميز الزنجي بكثرة الشعر ) , خفيف العارضين , به شمط كثيرا ( اختلاط سواد الشعر ببياضه ) , ولو تغاضينا عن هذه الصفات التي نجدها في العرب الأقحاج فإن اللغة العربية نفسها يمكن أن تدلنا على أنه كان أبيض شديد البياض , فلفظة آدم , وشديد الأدمة كما جاء في معجم مختار الصحاح , فالأدمة هي السمرة والآدم من الإبل الشديد البياض وقيل هو الأبيض والأسود المقلتين , فيقولون بعير آدم , وناقة أدْماء , وقد يعنون بأن بلالا كأن آدم أي من أم سمراء وأب أبيض فكان آدم شديد الأدمة , ولكن لما شاع في السيرة , أنه عبد , ومن أمة حبشية , تصورت الأجيال أن لونه لابد أن يكون أسود شديد السواد , وقد يكون فاتح اللون مصدقا لقول جرير بأن أمه لا تعبه بسمرتها وهو لم يشبه خاله الأسمر ولا عمه العربي الأبيض كم فهمنا من بيته السابق , فالاختلاط في الثقافة العربية كان محمودا ومطلوبا , وميز هذا الاختلاط الناجح بلالا باستقلال الشخصية , وبإيمانه الاحتجاجي حينما ترك القديم وفضل الجديد متابعا محمدا في دعوته التي وحدت الآلهة في إله واحد , وكان شديد الصبر على المكاره , فتحمل التعذيب , وكان يقف من كل شيء موقفه الذي يروقه مستقلا برأيه ومبررا له عقليا فأبي على الخليفة الأول أن يكون مؤذنا له بعد وفاة النبي , وأبي أن يقيم مع الخليفة في مأمنه , وآثر حياة الغزو والفتوحات , فسافر إلى الشام , وهناك تزوج , أصبح ثريا , ومات عن 62 ستين عاما في بعض الروايات . وكان العرب على ا لعموم حتى في الدولة الأموية العباسية والفاطمية في أي مكان نشأت فيه دولتهم كانوا على قناعة تامة بأفضلية وتميز أولاد الإماء على أولاد ( الأكارم ) .وذكر البكري في كتاب (سمط اللآلي ) عند قول الأعرابي وهو ولابد من ذوي العقل الرعوي قوله :
ما قرقمني إلا الكرم . يعني أن أباه طلب المناكح ( الكريمة ) في أصله فجاء ولده بسبب ذلك ضاويا ( هزيلا ) لا يقدر على المكارم ووثبات الأخلاق , وتحقيق الطفرات العقلية والنفسية .
عرف العرب من بعض الملاحظات الحياتية , والظواهر الفيزيقية التي اكتنفت حياتهم , وحياة أجيالهم , تأثير الوراثة , والتلاقح المتغير بين الأجناس , فدعوا إلى التخير في الزواج , ولكن أنظمتهم القبلية التي ثبتها الدين , ولم يحاربها , بل استعملها في أوقات الحروب كإدارة أهلية , أو كأداة للوصول إلى الخلافة كما فعل الأميون في الشام , أو انقسام بطون القبيلة نفسها سياسيا , كما انقسمت قريش إلى عباسيين وأمويين وطالبيين , فقامت الخلافات على القبائل , أضعفت من نزعة التخير , وحدت من فاعليته دينيا , فانقسام المجتمعات التي كان يجب أن يتم بينها التخير إلى سنة وشيعة منقسمين مذهبيا ومنقسمين وراثيا وبيلوجيا , إلى جانب الانقسامات الأخرى مثل فمنع الإسلام تزويج المشرك وإن كان صاحب طفرة , ومنع الزواج من المسيحي وإن كان صاحب ميزة عقلية , ومنع زواج اليهودي وإن كان صاحب ذكاء تجاري وعملي إلا بشروط يأبها كل من أنس في نفسه استقلال الشخصية والتمرد على المطالبات والشروط ومحاولات الحصر والتقليل والإحاطة والسيطرة , وسمى بعضهم مجوسا , وبعضهم زنادقة , فانقسم الفرس في جهة والروم في جهة أخرى , وحتى عندما كونوا الجيوش في الدولة العباسية من الشركس والأتراك والأجناس الأخرى رفضوا بفعل القبيلة أن يتلاقحوا معهم إلا في ظروف ضيقة محدودو شعبيا لا تتجاوز ترفيه الملوك والعيش في حريم الملك . بهذه ا لعقلية فتحوا البلدان الأخرى وعندما جاؤوا إلى السودان في القرن التاسع الميلادي جاؤوا فرادى يبحثون عن تجارة أو فارين عبروا إلى مناطق أخرى بعد زوال الخلافات المتعددة , فأدخلوا الدين عن طريق السكان أنفسهم دون أي مؤثرات عسكرية أو سكانية أو بيولوجية , أو جاؤوا من مصر في أسر صغيرة يحيط بها سياجها الجيني ظلت تتوالد داخليا بطريقة عشوائية إلى اليوم منها من طفر أو حافظ على نشاطه وألمعيته ومنهم من ركد وفشل , فلم يحدث ذلك التدفق الجيني الذي يمكن أن يطور السلالات .
التخير في بعض ا لأحيان جيد داخل الأسرة نفسها , إذا ظهرت فيها مخائل التفتح والنباهة والصحة الجسدية والعقلية والقدرة على ا لتقدم الروحي والاجتماعي , وهذا سر باب الظواهر , وقد تظهر أجيال أخرى أفضل حالا من سابقاتها لعدة أجيال , ولكن في بعض الحالات يكون الشخص المتميز إلى درجة ما أو الشخص الذي تبدو عليه الصحة والخلو من العاهات العقلية والنفسية وتوثب الذكاء قد يحتوي على صفات متنحية كامنة يورثها إلى الأجيال اللاحقة , فبدلا من ظهور أجيال أفضل يظهر أشخاص عليلون وذوو قدرات ضحلة واتجاهات وراثية إلى المرض والإفراط في الصفات وقد يصل هؤلاء إلى الحكم إن كانوا في أنظمة ملكية أو دكتاتورية فيعيثون فسادا في الأرض لعدة قرون , وقد يتجاوزون مأساتهم بفضل تلاقحات جديدة , وقد لاحظنا أن بعض الممالك يحثون أولياء عهد الملك على الزواج من أوربيات أو سلالات ظهرت فيها القدرات المهمة للقيادة كما حدث في الأردن من أجل خلق سلالة أفضل للحكم , أو يختارون من السلالات الملكية نفسها في الدول الأخرى من يتزوجون به كما يحدث في الملكيات الأوربية والبيوتات الحاكمة الكبيرة في العالم العربي .
التخير للنطف , فهمه البعض عنصريا , وفهمه البعض دعوة للزواج داخل الأسرة , ولكن هو ما أسماه دارون الانتخاب الجنسي , ولكنه عند المسلمين لا يتم جنسيا وإنما اجتماعيا عندما يختار الرجال رجلا لكريمتهم أو تختار النساء امرأة لولدهم وقلما يختار الذكر في القرون السالفة امرأة لأنوثتها , أو لنداء غريزي طبيعي يدفعه للحصول عليها إلا فيما ندر , وقلما تختار المرأة رجلا لإعجاب جنسي دفين يحثها على التعرض له والقبول بمشيئة حبه , فالحب عندنا لم يكن ابدأ مدفوعا بنواميس طبيعية أو نواميس جينية .
إن الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة لم يشك في صحته أحد كما ضعفت غيره من أحاديث التناسل والتخير الجنسي وهو الذي أخذنا به وطبقناه على حياتنا . إنه واحد من الأحاديث التي دمرت الحداثة في العالم الذي يدين بالإسلام , ونحن جزء منه , وهو الذي مهد في خلال مئات من السنين السابقة لظهور أضعف الأجيال عندما حكم ( الدين ) في الاختيار , وإن كان الإمام الغزالي الذي أدرك تأثير هذا الحديث نفى هذا التحكم على إطلاقه , ولكن العقل الشعبي الذي يحول الأقوال إلى أعراف لا يتدخل في التفاصيل ولا يعتني بالحالات الاستثنائية , فقد ورد عن الرسول ( ص) قوله : تنكح المرأة لأربع :" لمالها , ولحسبها , ولجمالها , ولدينها , فاظفر بذات الدين تربت يداك " . ولو قال اظفر بذات الدين الجميلة , أو الثرية , أو الحسيبة , لكان إلى حد ما متفقا مع علم الوراثة , ولجمع بين الثقافة والبيلوجيا , ولكان متفقا مع دارون في نظرته التطورية في الانتخاب الجنسي . لأن الدين لوحده ليس صفة من صفات الطبيعة , والغالبية العظمة التي تعتنق الأديان وتؤمن بها ضعيفة ذهنيا , وممتلئة بالهواجس العقلية والنفسية والخيالية , وهي عندنا إما جماعات نخبة تدين بالحفظ وسمتها الأجيال السابقة الحفاظ أو الحافظ فلان الفلاني , أو جماعات شعبية متبلدة الذهن وليست لها مشاعر شخصية أو مسافة حياد بينها وبين ما تؤمن به , أو مساحة حرية لقبول أي شيء يعارض ما تعتنقه رجما بالغيب . فالمرأة الجميلة أو الثرية قد يتنافس عليها الأقوياء أو الأثرياء أو الشجعان من الرجال في الأحوال الاجتماعية الطبيعية فتأتي أجيال ذات مورثات أفضل , وصفات أقوى , وأنجح , وقادرة على التقدم الجيني مستقبلا , أما أن يترك أمر الأجيال والتلاقح الجنسي القريب للأديان فقد تجد الشيخ الكبير المهدم المتدين مفضلا للمرأة الشابة الجميلة على الشاب القوي رقيق الدين فنقع في محظورات التوالد في عمر متأخر , أو المرأة الغنية مع شاب لا يحسن سوى الحفظ في الخلاوي والايمان بالخزعبلات القرووسطية فينقل للأجيال اللاحقه عيوبه الثقافية التي لا تحض على التفكير والقوة التأملية والتمييز بين الخيالي والواقعي . .. وهكذا وعلى الجملة , فالدين يربط جنسيا بين شخصين لا يربط بينهما الاختيار الجنسي أو لا تربط بينهما الطبيعة , فتتردى الأجيال , وهذا ما يحدث لسلالات السودان . أما الحديث الأفضل الذي يدعو للحرية الجنسية أو حرية الاختيار الجنسي بين الذكر والأنثى , أو يدعم تطور الانتخاب الجنسي ليكون أداة تطور سلالي , أكثر من الانسياق العشوائي بين العشائر الكبيرة , وأكثر من الانتخاب الطبيعي لبعض الطفرات التي تحدث بطريقة غير متوقعة, وهو حديث تخيروا لنطفكم , فهو الحديث الذي ينكر ويضعف دائما . وعدم التخير للنطف هو علة مجتمعنا الحديث , فكل النخبة التي تعلمت في الجامعات لم تولد في أجواء حرية جنسية ولا بعملية تخيروا لنطفكم العربية فولدت ضاوية هزيلة ميالة للعنف والخيانة وعدم القدرة على الإيمان بالأفكار الكبيرة , وظلت رغم تعليمها الغزير أحيانا تقبل أن تقاد من الخارج كعلامة ضعف بل وتبحث عمن يقودها ويوجهها ويصنع لها الطريق والمستقبل , فأصبحوا منذ الاستقلال وحتى اليوم كباعة العبيد في الزمن القديم يأخذون افرادا من قبائلهم بحجج الجريمة أو زيادة العدد .
وأكثر ما لاحظه العرب , وينكره بعضنا اليوم أن الأخلاق تُورث , قال بعضهم سألت ناسا من أهل اليمن إلى من أنكح ؟ فقالوا اتق الدَّقة المتوارثة وانكح إلى من شئت . قلت وما الدقة المتوارثة ؟ قالوا أخلاق سيئة يرثها آخر عن أول . وفي التجارب الحديثة على التوائم المتطابقة أو أطفال التبني أثبتت الدراسات أن الأخلاق بالفعل يمكن أن تكون وراثية , وأن البيئة بالغ ما بلغت من التحسين لا يمكن أن تغير الطبيعة الوراثية المستقرة في الجهاز الجيني , ولذلك فكثير من مناقب السودانيين وراثية ترجع لأقوام وعادات قديمة , إذ العادات لا يثبتها شيء , ويقويها سوى أنها وراثية , ولذلك فالشعوب المتقدمة عادة ما تنتزع نفسها من أعرافها وتقاليدها , أو على الأقل تقوم بتنظيمها , والإفادة منها , وليس الانصياع الأعمى لها , والأديان تتحول في داخل أولئك الأقوام إلى عادات غير قابلة للنقاش والتحويل بالفعل الوراثي , فسلوكيات مثل الإجرام , والميل للمرض النفسي والذهني , وللعادات الضحلة في التفكير والتدبر , والاتجاه إلى التبذل واللذة , أو الرفض والإرهاب يمكن أن ترجع لميول جينية كما ترجع تصرفات المجرمين لميراث سابق على مولدهم .
مازلنا نتصرف على عكس ما تمليه الطبيعة داخل إطار عريض وصارم من التقاليد الجنسية والاجتماعية , فنمجد القبيلة , والأصل الذي جئنا منه , وتاريخ الأنساب التي ترجع في بعض الأحيان إلى شخصيات دينية موغلة في القدم وبعيدة جغرافيا بل وسلاليا عنا , ندور بلا تقدم عرقي , في تخلف تام ذاك الذي يعمقه الآن الصراع السياسي , وبلا حرية جنسية قادرة على خلق طفرات أو انسجام سلالي مفيد , ولا نتوخى إلا ( الكرم ) في الأنساب المأثورة , ولا نضمن إلا المواليد من الزواج الأسرى , ونظن ونحن في هذه الدائرة الحرجة من حيث الحرية والقرابة أنها تنتج أنجالا ذوي عزيمة ومضاء وقوة فلا نجد سوى الفشل . وإذا كان الدين أساسا للزواج فالسلطة أيضا كذلك في عالمنا الراهن , كما نرى في الزواج الأسرى الداخلي لمن يحكمون السودان الآن , وهو زواج كان يحدث في العصور الموغلة في القدم , وهو زواج قسري ضار لا علاقة له بالانتخاب الجنسي أو ( الانتخاب الديني ) بل هو انتخاب سياسي لتقوية السلطة والحفاظ عليها ممن هم أقرب الناس إليها ولا سبيل إلى ذلك إلا بالزواج السياسي , مما ينذر بخلق طبقة سياسية أسوأ من سابقتها بمراحل كثيرة إذا تيسر لها الاستمرار .
هناك معلومات مهمة في علم الوراثة التاريخي وهي أن حجم العشير يؤثر في تطورها البيلوجي , وأن الهجرة تقدم عناصر لتطور السلالات , وأن هناك ارتباط وثيق بين التباين في الزمان والمكان بين الجينات , وأن معدل تطورها يختلف بذلك , وأن هناك جينات محددة يبحث عنها علماء الوراثة التاريخيين المهتمين بمعرفة التطور البشري تعرضت للانتخاب الطبيعي دون غيرها , فإذا عرفنا كل ذلك يمكن لنا أن نستنتج من حالتنا الراهنة أن جينات المعرفة المادية والجينية والثقافة بعمومها , والدقة والترتيب العقليين , لم تتطور عندنا بحيث تحدث فيها طفرات إيجابية بعامل الهجرة أو الزيادة السكانية أو قدرة نظام الوراثة نفسه المسمى بالجينوم على العطاء المتجدد , وإن حدثت في نظام الانتخاب الطبيعي لم يطورها أو لم يكتشفها لأسباب بيئية أخرى يجب تتبع أثرها .
قلة عدد السكان بسبب الأمراض في إفريقيا عامة من أكثر الأمور ثباتا والأمراض من ناحية والجينات التي تحمينا منها من ناحية أخرى يلعبان دورا في التطور البيولوجي , ولكن دل تاريخ المرض في بلادنا وفي إفريقيا عامة أن جهاز المناعة لا يطفر ولا يقاوم الأمراض التي كانت تقضي على مجموعات بكاملها ولذلك لم يحدث أن طفرت الفيروسات والبكتيريا المسببة للأمراض بالمقابل لذلك , وظل معدل المرض ثابت لفترات طويلة , مما أنتج عدد ا لسكان الضعيف في إفريقيا . فالمرض الذي يقلل عدد السكان هو نفسه الذي يقلل الطفرات ويجعل الميراث بعيدا عن التطور البيولوجي .
( في السودان يلاحظ بالعين المجردة عمق التباين الوراثي ونعزو ذلك أكاديميا ولسنوات طويلة إلى ضخامة المساحة ولكن هذا التباين الوراثي في السودان وفي كثير من الدول الإفريقية ظاهر حتى بين القرى القريبة الملاصقة لبعضها البعض . لم تحدث معدلات هجرة ضخمة تكتسح الفروقات الوراثية عالميا , مما أنتج التباينات الحالية , وفي السودان خليط , وسحنات مختلفة , وكانت ومازالت الحالة الثقافية السكانية تمجد الاختلاف وتخلط بين البيولوجي وبين الثقافي , هذا وتصور سلالات الشرق والغرب والشمال والجنوب ( سحنيا ) وليس ثقافيا , وإن كان الاختلاف الثقافي والمحلي موجودين بصوت عال , وربما أصله بيولوجي , ولا تنوه بل ولا تعرف الحكومات المتتابعة بين هذه التباينات الفادحة الكارثة الكامنة خلف هذا التعدد البيولوجي الذي يشي باختلافات وراثية لشعب عجز لأسباب تاريخية واجتماعية عن الانسجام سكانيا وعرقيا وخلق طبقة متقدمة من هذا الانسجام , ونخبة أكثر أخلاقية بالتعليم والتدريب , فزبدة المجتمعات لا تتوفر إلا بعد انسجام سكاني أو على الأقل عرقي داخل العرق الواحد المعروف تفاصيله وتراكيبه الوراثية , فمنذ الممالك القديمة المتخلفة عقليا وروحيا وتنظيما في السودان , المعزولة عن التطورات في العالم المحيط بها حتى ولو اتصل بها واقترب منها , كانت تعيش في سلام مريب في اختلافات بيولوجية وثقافية تتطابقان ومازالت الاختلافات الثقافية موجودة معززة من الاختلافات الوراثية , فنظام القبيلة لم ينتج الحروب وحسب على أساس بيلوجي وإنما كذلك تقهقر وراثي يتغاضى الناس عنه . )
الإفريقي ( والسوداني ) كما يبدو مصاب ببطء ( الطفور ) وكسل الجهاز الوراثي ونرجح أن عدد الجينات ذات الطفور المرتفع قليلة العدد , وهي لا تنتج طفرات سكانية تتفاعل مع كل ما هو حضاري . ونعتقد أن الأفق الثقافي محاط بسياج بيولوجي يجعل من شعوبنا دائما في مؤخرة من يفهم التطورات الحضارية والثقافية والسياسية . هذا السياج البيلوجي هو الذي منع المهدويين كسودانيين من كل القطاعات أن ترى تطورات العالم في زمنها وأن تواكبها حتى على مستوى الفهم البسيط , ومع أننا تخلصنا من هذه الرؤية إلا أن السياج البيلوجي مازال يمنعنها من رؤية المكان الحضاري الذي نعيش فيه , ومكاننا من العالم وحضارته , وهذا السياج لا ينكشف لنا إلا بعد ظهور أجيال أخرى سترى ما عمينا عنه كما عمي المهدويون ونظرنا نحن لما عموا عنه .
الأمراض المعدية والوراثية عطلت من التطور البيلوجي داخل بلداننا , والأمراض تفيد في الانتخاب الطبيعي بزيادة معدل الوفيات , ولكن قلة عدد السكان في إفريقيا يدل على عدم وجود سلالات تتقدم عن طريق المرض وتتقدم عن طريق الانتخاب الطبيعي . فالأمراض والجينات التي تحمينا منها تلعب نفس اللعبة التطورية ولكنك لا تلمس هذا التطور برغم الأمراض والأوبئة الكثيفة التي أبادت الملايين في إفريقيا عبر العصور , فالأمراض تنقح السلالات , وتساعد على الطفور , ولكن هذه العملية لا تحدث في بلادنا , ولذا نعتقد أن قوانين الطفور والتقدم الوراثي ليست واحدة في العالم ولكل السلالات . وبرغم الأمراض تعاني بلداننا من ثبات معدل التطور الذي يظل على مستواه حتى بعد زيادة معدل الأعمار بزيادة الرعاية الطبية .
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.