جاءت حرب الخرطوم فجأة بكل بويلاتها ، انعدم الأمان ، تزايد خطر الموت مع دوي الرصاص والقذائف ، وكان لزاما على الكثيرين الفرار من هذا الأتون المحرق الذي يزيد اشتعالا ، خرج الناس وهم لا يلوون على شئ ، حملوا معهم بضعة ملابس هي في الغالب غير متناسقة ، ردموها بسرعة في أقرب حقيبة في متناول اليد ، تركوا بيوتهم على عجل ، اغلقوا الأبواب بسرعة ، ولم يجدوا زمنا ليلقوا نظرة أخيرة على منازلهم ولا ليودعوا حياتهم الآمنة وذكرياتهم الحبيبة وانتشر سكان الخرطوم بين الولايات ، بدءا بالولايات الأقرب كما يقتضي المنطق فذهبوا صوب الوسط والشمال ، ومن كان سعيد الحظ ، فقد ذهب صوب أسرته الكبيرة في مدن وقرى الجزيرة ونهر النيل ، وسكن معهم ، وقد ضرب الكثير من مواطني هذه الولايات أمثلة نادرة في الكرم والحفاوة ، فاقتسموا اللقمة واللحاف مع الغريب قبل القريب ، وفتحوا بيوتهم وقلوبهم لهؤلاء المنكوبين الذين فقدوا الكثير الكثير وربما قد فقد الكثيرون كل ما يملكون من متاع هذه الدنيا ، وفتحت السلطات المحلية المدارس والداخليات لإيواء النازحين من حرب الخرطوم ، وقد سخر الله سبحانه وتعالى المأوى والمأكل لكثير من المحتاجين الذين فقدوا أعمالهم ومصادر دخلهم ووجدوا من الخيرين من وفر لهم الطعام ، في أقصى النقيض من هذا السلوك الكريم الجدير بالإشادة ، استغلت مجموعة كبيرة هذا الظرف القاسي في فرض أسعار فلكية لإيجارات البيوت في هذه المدن كمدني ، شندي ، عطبرة ، الدامر وبورتسودان، فاعتبر هؤلاء البشر الذين تجردوا تماما من الإنسانية ، اعتبروا الحرب هي ليلة قدرهم التي ستجعلهم في مصاف الأغنياء وتم تأجير المنازل في هذه المدن بأكثر من عشرة أضعاف سعرها قبل الحرب ، وتساوت مدينة شندي الصغيرة مع بڤرلي هيلز ولوس أنجليس في الإيجارات ، وتم استنزاف هؤلاء المستنزفين أصلا جراء الحرب ، واستغلال ظرفهم القاهر ، بدون رحمة أو عطف ، وأصبحوا كمن استجار من الرمضاء بالنار ، المحزن والمؤسف في الأمر أن أصحاب البيوت في جميع هذه المدن قد اتفقوا على هذا الأمر ، ولو حاولت مناقشة أحدهم فسيكون رده ببساطة أن (الجميع فعلوا ذلك) ، ولا أدري كيف لا يستطيعون أن يستشعروا كمية القبح ، السفالة والانحطاط الأخلاقي في هذا السلوك المزري المشين فهل يعقل أن تستغل إنسانا وهو في قمة ضعفه، أتاك هاربا من الموت ، تمت احتلال منزله وسرقة ممتلكاته بواسطة هذه المليشيا الآثمة ، تفكر أن تغنى عن طريق إنسان في قمة العوز ، ربما يكون احتجاجا صارخا لأنني اكتويت بنار الإستغلال ، لا أدري كيف أغفل هؤلاء ونحن مسلمون أن البركة في الرزق أهم بكثير من الكثرة ، وأن الرسول (ص)، دعا الله بأن يشق على من شق على أمته ، وأن الكرم خصلة المسلمين ، ليس لدي أدنى شك أن هذه الأموال التي تم تحصيلها من الهاربين من الحرم لن تنفع أحدا ، بل وستكون وبالا على كل من استحلها وربما ذهبت بجميع رزقه حتى الحلال منه ، فهي أموال مبتلة بالدموع وملطخة بالدم ، ألم يفكر هؤلاء الانتهازيين ، تجار الأزمات أن الدائرة قد تدور عليهم وأنه ما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال هذا من جانب ، من جانب آخر ، جميع المدن والقرى التي هرب إليها سكان الخرطوم جراء الحرب ، شهدت نشاطا وازدهارا في الحركة السوقية والاقتصادية ، وبالتأكيد انتعشت التجارة ، وبالنظر للجانب الممتلئ من الكوب، فقد تحسن مؤشر العطالة، والكثير من الناس وجدوا مجالا للعمل ومصدرا للدخل . نسأل الله تعالى أن تنتهي هذه الحرب ، ويعود المشردون إلى بيوتهم ، ويعود الأمان ليعم كل أرجاء وطننا الحبيب ، هذه الحرب لعينة وقاسية وقد جعلتنا نعاني ونقاسي ، وأخذنا فيها الكثير من الدروس والعبر والتي ندعو الله أن تكون عونا لنا في إعادة بناء هذا الوطن الصامد وعاصمته الأبية الخرطوم .