يتهدجُ صوتُ الشيخ تأثراً وهو يردّدُ " اللهم إني أقدّمُ إليك بين كل نَفَسٍ وكل طرفة يطرفُ بها أهل السماوات والأرض "… ينزلقُ طرفُ مئزره القطني إلى الرمال النظيفة مُصدراً خشخشةً لطيفة، فيجذبُه مراتٍ، ولا يعبأ به مراتٍ أخر. في الباحةِ الفاصلة بين المسجد العتيق والقبة الخضراء اللون يلتفُ الناسُ حول الشيخ، يصغون إلى صوته الذي يترقرقُ كما نسائم الفجر، ورؤوسُهم تتمايل في نشوةٍ ذاهلة. آلاف الجلابيبِ البيضاء تزيّنُ عرصة المسجد حيث يرتّل الشيخُ -أبي يوسف -أماديح الشيخ "المكاشفي" وأدعيته المأثورة. أصواتُ النوبة تئنّ وترنّ متعاليةً من الجانب الآخر من "المسيد". تلك مساحةٌ أكثر شسوعاً، وتمتدُ على أطرافِها الدكاكين وبعض البيوت الخفيضة السقوف. آلافُ المحبين ينتشرون هناك أيضاً، يتمايلون مع إيقاع النوبات والأجراس ويبدون بجلابيبهم البيض كأسراب البطاريق. تلك صورٌ ظلّت تحشدُ ذاكرة الصبي الطفلة:" شيخ مهدى ود شيخ الطيب " وهو يتصدّرُ الجموع مرتدياً جلباباُ أخضراً خريفياً، وقد علت رأسه طاقيةٌ تزينها بضعة ريشات نُتفت من نعامةٍ لا ذنب لها. يقودُ شيخُ "مهدي" رجالاً متبايني الأعمار، يميلُ يمنةً فيتبعونه، ويميل يساراً فيميلون يساراً وكأنهم مشدودون إلى الرجل بخيطٍ لا مرئي. نوبتا " السّر " و " عمر " تتنافسان وكأنهما حصانان يستبقان بين السماء والأرض، وقد يستبدُ الطربُ ب " السّر " فيضع النوبة بين كتفيه – وراء رقبته – بينما تستمرُ يده اليمنى المعروقة في ضربها دون أن يختل إيقاعُ النغم. قريباً من شيخ "مهدي " يتقدم " الجيلي إبراهيم طه " وهو يهزُ رأسه الأصلع الصغير الذي يتقافز بين كتفيه كما يتقافزُ قاربٌ بين موجتين. " الجيلي " هو قلب الإيقاع، ونوبتُه هي رمانةُ ميزان الدائرة التي يعلو من وسطها غبارٌ يبدو ذرات على أضواء الرتاين (لم تكن الكهرباءُ قد عرفت طريقها إلى القرية بعد). وراء شيخ " مهدى " يصطفُ بعض الأتباع، وما بينه وهؤلاء يتناثرُ صبيةٌ قلائل يشكّلون جوقةَ مرحة الأرواح. كان الصبي واحداً من هؤلاء. حين وُلد لم يكن أبوه موجوداً في القرية فأطلقت عليه أمُه اسم " محمد أحمد المهدى " تيمننا بالزعيم السوداني الديني العظيم. ثم مع كرور الليالي، وربما لطولِ الاسم، بات الناسُ يدعونه بالمهدي، ولسببٍ مجهولٍ سقطت ألفُ ولامُ التعريف. هل كان الحرفان ثقيلين على كتفي اسمه، أم انها رمزية قدرية تشير إلى أنه سينضمُ إلى جحفلِ من مجهولي الملامح الذين لن يحققوا شيئاَ سوى الخيبة ؟!! لم يكن المكانُ قد ازدحم بالقباب كما اليوم، ولم تكن النفوسُ قد حشاها الشجن بعد. كانت بائعاتُ الشاي والقهوة والكسرة يتناثرن على أطراف صحن المسيد، تجلسُ كلُ واحدةٍ منهن على "بمبر " خشبي ضخم أو سريرٍ متوسط الحجم، بعضهن شاباتٌ في مقتبل العمر وبعضهن قواعد لا يرجون نكاحاً. يجلسُ العشراتُ أمامهن يلتهمون ويحتسون ما يقدمنه إليهن بينما يقفُ العشراتُ من الزوّار على ظهر الحفير وقد امتدت أطيافُ أجسادهم بين ما نسميه "دبّة الحفير " -أي ظهرها -وبين رؤوس الدكاكين الصغيرة المتاخمة لها. تيمم وجهك صوبَ المشرق صاعداً ظهر تلك الحفير العظيمة التي لطالما حيكت حولها الحكايات، فترى العشرات يغسلون رؤوسهم في مائها الذي يضربُ إلى الاحمرار قليلاً. هو لون التراب الذي نطلق عليه في الجزيرة " العَزَاز ". لا غرو، فللحفير مجرى ضخم يمدُها بالماء من أطراف القرية الطينية بل ومن زوايا " قوز شيخ الجيلي " الرملي حيثُ يعيشُ بعضُ المريدين عيشة كفافٍ لطالما أدهشت الصبي. يتسللُ صاحبُنا مرةً أخرى من بين جموع السادة المحيطين بشيخ " مهدى " ويشقُ جسدُه النحيل طريقه بين أمواج البشر إلى حيث ساحة المسجد الرابضة بين المسجد وقبة " الشيخ المكاشفي" الخضراء. هناك يقفُ عند الصف الأمامي وتتأملُ عيناه أباه. لطالما عشق تفاصيل وجهه اللطيفة: الجبين المتغضّن، الذقن التي تحيطُ بالوجه في بياض حقلٍ جليدي، الفم الرقيق والحاجبين الكثين اللذين يتناثرُ شعرُهما في فوضى جميلة. ظل صوتُ أبيه هو القاسم المشترك بين كل الكرنفالات الدينية في القرية. وحين يعودُ الصبيُ آخر الليل إلى باحة مسيد " الشيخ الجيلي "، يجد ذات التفاصيل: النوبة والجموع وأصوات الأجراس والغبار. لا تزيدُ سوى مشهد " النفقة " المهيب حيثُ يشرف "عبد السخي " على إطعام الآلاف دونما كللٍ أو تبرم. وحين يتسللُ الصبي إلى دارهم يجدُ الضيوف متناثرين على جوانب الحوش الضخم في فوضى جميلة المذاق. حينها يعانقُ أمه ويروى لها كل تفاصيل الليلة قبل أن يسقط رأسه المتعب على صدرها الرحيم. هل كان الصبيُ يدرك حينها ما يخبئه له القدرُ من عذابات؟ هل كانت تتصورُ تلك الروحُ الغضة ما سيمورُ فيها لاحقاً من تلاطم أسئلة كبرى تتعلق بالموت والزمن والعدل والخلود والأبد؟ هل كان يعلمُ أن الزمان سيقتلع قدميه من ذاك المكان اقتلاعا؟ ذات يومٍ، وفي ساحةٍ من ساحات الذكر، نظر درويشٌ استبد به السكرُ إلى شعر الصبي الطويل وابتسم. دقيقةٌ واحدةٌ وتغيّر كل شيء. دقيقةٌ واحدةٌ حوّلت حياة الصبي إلى قطارٍ يقفُ برهةً عند جورج بيتاي وولعه الغريب بالموت، وبرهة عند سبينوزا وصراعاته الفكرية عن مفهوم الزمن، وبرهة ثالثة عند جورج أورويل الذي قلب الطاولة على الشيوعيين لكنه مات كما التجاني يوسف بشير: معذباً ظامئاً لليقين. شدّ الدرويشُ الصبي من شعره بوحشيةٍ غريبةٍ وطفق يدورُ به دوائر سريعة لاهثة وهو يتحدث لغةً غريبة. وحين حرره بعضُ من كانوا حولهما كان وجهُ الصبي قد تخضب بالدماء والدموع، بينما تناثرت بقايا من شعرٍ نتيفٍ على كتفيه وخديه وتراب الساحة. بعد أعوامٍ كان قد تعوّد على الوقوف خارج دائرة الذكر، قريباً من جمع نسوةٍ ليس عليهن جناحٌ أن يضعن ثيابهن غير متبرجاتٍ بزينة، أشهرنّ " آمنة بت نايل ". تتعالى أرواحُ القوم عناقاً و اصطفاقاً بينما يكتفي هو بتأملهم بحنينٍ دافقٍ و غيومُ ذكرياتٍ رقاقٍ تسافرُ في تلافيف مخيلته. في البدء كانت النوبات !! ولعله لا يزالُ يسمعُ صداها يترددُ عابراً أمواج البحر إلى منفاه الرخامي في مدينةٍ استعصى يباسُها علي البحر. توفي أبوه ذات صيفٍ هادئ. رحلَ بذات البساطةِ التي قدِم بها الى الكون. مضى لكنه ظل واقفاً في تراب القلب نخلةً لا تنالها سفاهُ الريح. بعد أعوامٍ خمسةٍ لحقت أمه بأبيه. رحلت بعد أن نال منها السرطانُ ما نال. وحين هاتفه خاله معزياً إياه في وفاتها لم يقو على البكاء. انحدرت دموعُ روحه الى الداخل وبقي وجهُه بذات النظرة العاجزة أمام فهم كنه الموت. في البدء كان المولدُ !! وما بين مدنٍ تغسلُ شوارعها وجريد نخيلها احتفاءً بمولد سيد الخلق، وأخرى ترى في الأمر بدعةً لم يعمل بها الأولون، تتبعثرُ سنوات الرجل – طفل الأمس – التي تجاوزت الخمسين بعامين . يذكر أنه كان يخشى الموت كثيراً، لكن حين توفى والداه بدأت علاقته تصفو مع هذا اللغز العظيم، وبدأ يرى الأبد زمناً وسيماً ينتظره بعد أن يعبر قنطرة الردى. وهو طالب في الثانوية قرأ كتابات طه حسين عن الشك الأدبي في التراث العربي. ورويداً رويداً بدأ ذاك المذهبُ يلتهمه حتى بات يشك في وجوده هو، ويرى نفسه مجرد حلمٍ أثيري يتردد كمواويل بين جبال اللا شيء. لكن أشجان بلاده أعادت إليه حقيقة أنه موجود كما النيل …. في البدء كان المولد !! وصوتُ صديقه " أمير مهدى " يردّدُ مع الكابلي إلياذة " محمد المهدى المجذوب " : أيكون الخيرُ في الشر انطوى والقوى خرجت من ذرةٍ هي حُبلى بالعدم ؟! أتراها تقتل ُ الحربَ وتنجو بالسَّلَم ويكون الضعفُ كالقوةِ حقاً وزماما سوف ترعاهُ الأُمم ؟! هذه الأيام تزدان " الشكينيبة " بعبقُ المولدُ، تتغنجُ شوارعُها الضيقة حسناً أمام زائريها، وتتزينُ قبابُها وساحاتُ مسيدها حبوراً بمقدم المحبين … صديقي " أمير مهدي ": هل لا يزالُ للاحتفال بالمولد ذات العبق القديم؟ في البدء كانت الروح !! [email protected]