ما رأيك يادكتور- ونحن عارفين إن ثقافتكم ماشاء الله عالية- أن تدرّس لنا فى الفصل القادم فى مقرر تاريخ الفنون، الفن فى الحضارة المصرية القديمة؟ هكذا قال لى عميد كلية الفنون الجميلة بجامعة دلمون بالبحرين، والذى عملت معه لسنوات كرئيس لقسم الجرافيك، وهو شخص طيب كما يبدو لى كريفى مصرى، ذو ذكاء فطرى ملحوظ، تركز ذهنى وقتئذ بين فكرتين، هل هو فعلا يثق فى ثقافتنا كسودانيين؟ أم يريد أن يضعنى فى اختبار ما، لأن رئيس الجامعة فضلنى لهذه الوظيفة على مرشحه – مرشح السيد العميد- لزميله المصرى الذى يعمل فى جامعة حلوان؟ قلت له : ولماذا ندرّس الفن فى حضارة مصر القديمة فى فصل دراسى كامل لأربعة أشهر؟ فى الوقت الذى يتسع فيه الزمن لتدريس الفن فى حضارتين مهمتين أخريتين فى العالم العربى بجانب حضارة مصر القديمة، ليبقى المقرر أكثر غنى وتشويقا ومقارنة بين فنون هذه الحضارات؟ قال لى بزهو: وما هى الحضارات الأخرى فى العالم العربى التى تضاهى حضارة مصر القديمة؟ قلت له: حضارتان شامختان، حضارة العراق القديمة، وحضارة السودان القديمة..! قال لى وعلى وجهه نظرة اندهاش: لقد درسنا فى الكلية بعضا من فنون الحضارة العراقية القديمة، ولكن هل فى السودان حضارة قديمة ؟ قلت له: أنتم أقرب الناس إلينا ولا تعرفون أن بالسودان حضارة قديمة حكمت مصر لحوالى قرن من الزمان؟ قال متى كان هذا ؟ لم يدرسونا شيئا من هذا القبيل؟ رددت عليه قائلا: حضرتك أستاذ مشارك وكنت عميد فى بلدك، وتخرجت من الجامعة منذ سنوات طويلة، لماذا لم تبحث فى مجال تخصصك عن الفنون فى الحضارت القديمة وأقربها لكم حضارة السودان؟ اعتذر بمشكلات الدنيا وتربية العيال، صمت برهة، قد يكون لشعوره بالتقصير. ثم سألنى عن ممالكها أو دولها القديمة. قلت له الممالك النوبية (كرمة ونبتة ومروى) و(ممالكها المسيحية النوبية) فيما بعد. هتف فجأة هاشا كأنه اكتشف شيئا كان منسيا: تقصد النوبيين (بتوعنا) فى جنوب مصر؟ قلت له النوبيون (بتوعكم) جزء من الممالك النوبية التابعة للسودان، وهم لايمثلون من الشعب النوبى إلا القليل ويعيشون فى إطار 100 كيلومتر على جانبى وادى النيل فى أسوان وإدفو وكوم أمبو وغيرها، أما المنطقة الحضارية النوبية فى السودان فتمتد داخل السودان لحوالى 1500 كيلومتر، من حلفا شمالا حتى النيل الأبيض جنوبالخرطوم، ومن أرض البطانة شرقا وبعض مناطق البحر الأحمر وجدت فيها آثارها، حتى مشارف كردفان غربا. اندهش كثيرا، وذكر أنه سيكون سعيدا جدا لو اطلع بالتفصيل على الحضارة السودانية القديمة..! وقد وافق العميد على اقتراحى بتدريس فنون الحضارات الثلاث. وقد استمتع طلابى وطالباتى كثيرا بهذه الدراسة، والمقارنات بين الحضارات، وعرفت – فيما بعد – أن الكثير منهم، لا زال يحتفظ على حاسوبه بهذه المقررات بعد تخرجه، لأن بها كنوز من الفنون يستمتع الفرد بإعادة دراستها، والرجوع إليها – كخريج- كمعين له فى تصميماته الفنية المستقبلية. وكنت حريصا على أن يرى مقرراتى للحضارات الثلاث، وكنت قد صممت المقررات بحيث تحتوى كل حضارة على حوالى ثلاثمائة شريحة، تشتمل على صور مرفق بها معلومات مصاحبة، وكان تعجّبه الأول، قوله أنه قام بتدريس الفن فى حضارة مصر القديمة عدة مرات، ولكنه لم يكن بالعمق الذى قدمته به، وتعجبه الثانى أن هنالك حضارة بهذا الجمال والإنسانية فى السودان ولا يعلموا فى مصرعنها شيئا، وعندما افترقنا حيث عدت للسودان عام 2012م ، وعاد هو إلى مصر، وكان يحمل معه – حسب طلبه – قرصا صلبا يحتوى على المقررات الثلاثة، وقال لى وهو يودعنى: سأعرض مقررك عن (الحضارة السودانية القديمة) لزملائى الأساتذة فى جامعتى (جامعة جنوب الوادى)، مبينا لهم كيف ظلمنا أقرب الجيران إلينا بعدم الاطلاع على حضاراتهم وتدريسها ضمن مقرراتنا..! ولا زلنا متواصلين معا حتى الآن..! ذكرت هذه المقدمة، لأوضح حقيقة ما يدركه كل إعلامى، من أن إعلامنا المرئى فاشل، أما المطبوع والأليكترونى فهو محدود الانتشار. وفى مقال لى سابقا تحدثت عن أهمية أن تكون لنا قناة فضائية، وقد تحدث إلىّ بعض الزملاء بأن هنالك عدة قنوات فضاية سودانية، ولكن معظمها قد توقف نتيجة الحرب، وقلت لهم أعلم بذلك، ولكن تفكيرى ينصب على تأسيس قناة فضائية (نوعية) تصل إلى شعب السودان فى كل أرجائه أولا، ثم تعبر الحدود ناقلة السودان تاريخا وتراثا وثقافة إلى العالم العربى وأفريقيا والعالم الخارجى، لنشر ثقافتنا وحضارتنا، ولذا أجد الفرصة فى مقالى هذا، لتوضيح الفكرة التى طرحتها من قبل بمزيد من التفاصيل. تفكيرى فى قناة فضائية ثقافية إخبارية حرة، يملكها الشعب السوداني، وتعبرعن ثقافته وحضارته، ومن أهم واجباتها أن تعرّف العالم الخارجى بالسودان المجهول حتى هذه اللحظة، لدرجة أن اسم السودان خارجيا ارتبط – رغما عن شعبه- بالإرهاب وبأطول الحروب فى أفريقيا..! كما أن من واجباتها الأساسية التعبيرعن وحدة الشعب بتاريخه وتراثه المتنوع، وصولا إلى (بلورة) الهوية السودانية الموحدة التى شتتتها العقود الثلاثة من الحكم الدكتاتورى الشمولى، وأوصلتنا إلى الحرب.! ولا يمنع أن يكون للقناة هدف فرعى يتمثل فى رد أكاذيب أعداء الشعب الذين بدأوا يعدون عدتهم من الآن لمحاربة الجبهة المدنية العريضة، وأى سبيل يؤدى بنا لحياة ديموقراطية سليمة، وقد كالوا التهم من الآن بالعلمانية والكفر والعمالة للسفراء، لبعض الأفراد المشاركين فى اجتماعات أديس أبابا، ومشكلتنا أن أعدادا كبيرة من شعبنا يتميزون ببساطة شديدة ويصدقون ما يقال من أكاذيب، ولذلك علينا أن نؤمن بأن ثورات التغيير لا تنجح إلا بإعلام قوى وفعال. ومن أهدافها أيضا استخدام الإعلام الناجح فى التنمية، وهنالك عشرات الكتب فى المكتبات تتحدث عن أهمية الإعلام فى التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ..إلخ. ومن شروط هذه القناة ألا تخضع لسلطة الدولة أيا كان نوع النظام الذى سنختاره، ولا تخضع لأى تجمع جهوى، ولا لأى حزب من الأحزاب. وإنما تخضع للمبادىء السياسية العامة التى سيقوم عليها النظام الجديد. ويتلخص تطبيق فكرتى فى تكوين شركة مساهمة، يساهم فيها الشعب السودانى بحر ماله، وتكون مملوكة للشعب السودانى، وهو الذى يعين مجلس إدارتها، أو يغيره بما يتفق مع مصلحة الشعب العليا، لتعبر القناة عن آلامه وآماله وطموحاته فى النمو والتطور، ونحن لسنا أقل مكانة ولا ثقافة من الشعب الأثيوبى الذى بنى سد نهضته من حر ماله. ولا أقل من شعب رواندا الذى جمع من حر ماله ليشترى قمرا صناعيا من فرنسا، ليبث لرواندا الإنترنت والبرامج التعليمية مجانا للمدارس والجامعات وللشعب فى البيوت لينتشر التعليم، قائلين أن (الجهل) هو الذى أدى للحروب..! قناة الراكوبة الفضائية ولما (للراكوبة) من تاريخ عريق فى نشر الرأى الحر، أرى – كفكرة قابلة للمناقشة – أن تتبنى الراكوبة هذه الفكرة، فكما (ظللت) وحمت الراكوبة الرأى الحر وكتاّبه، وعانت من المحاربة والتهكير أعواما طويلة، فيمكنها الآن أن تتوسع فى (تظليلها) على المجتمع السودانى بأسره، وتحتفظ لنفسها ب 10 أو 15 فى المائة من أسهم الشركة، لنضمن جزءا من الإدارة الناجحة للقناة، وتُطرح بقية الأسهم للمواطنين، على ألا يزيد نصيب الفرد من الأسهم على نصيب الراكوبة، وهذا لثقتنا فى أصحاب فكرتها وإدارتها التى أخرجتها بهذا الثوب القشيب، ولا يعجزها أن تدير قناة فضائية بالاستعانة بطيورنا المهاجرة فى القنوات العربية والأجنبية. وسوف تكون الاعلانات من المصادر الممولة للمحطة، وليكن نظرنا مركزا على تجربة قناة الجزيرة الناجحة مهنيا، وليس على أى قناة عربية أخرى. ولكن المطلوب الدراسات المعمقة من الخبراء المتخصصين. وأرجو ألا يخشى بعض الأخوة من التفكير فى تطبيق هذه التجربة، فالمشروعات الضخمة، مثل سد النهضة، والسد العالى، وقناة الجزيرة، كلها بدأت بحلم صغير..! [email protected] 0097338067919 هاتف وواتس أب