لا أريد أن يكون هذا السؤال مؤطرًا ، فالسؤال المؤطر هو الي يحمل المجيب لخيارات محدودة ، وليست مفتوحة ، فهنا يحدد العنوان أنّ السودان قد ضاع ، ويريد من القارئ أن يجيب عن المتسبب في ضياعه ، لكننا إذا استقرأنا الواقع فنجد فعلا أن السودان قد ضاع ، ولا يختلف في ذلك اثنان ، ولا يتناطح فيه عنزان. ولا أريد أن أكون سوداويا ومتشائما ، فالمتابع لكتاباتي يجدني – دائما – أضيء شمعة في آخر النفق المظلم الذي نحن فيه الآن ، فلعلها تجد من يقتنصها ، وينير بها دربنا المظلم. ولو تناولنا السؤال بطريقة أخرى ، ليصلح للإجابة عنه ، ونقول : من الذي أوصلنا لهذه المرحلة؟ . وهي أسوا مراحل عمر هذا الوطن : فقر مدقع وأمن مفقود وحياة متعطلة وجامعات مغلقة ومدارس حجب عنها تلاميذها ، وعملة منهارة ، وطن مستباح للجميع، ومطمع للغريب والقريب … في محاولة للإجابة عن المتسبب فيما بلغته بلادنا الآن نقول : إنهم الجميع ، حكام ومحكومون ، هم من تسبب في هذا الدمار الشامل. أضاع السودان مَن تعجّل نيل الاستقلال ، قبل أن تنضج الحرية داخلنا بفهمها السليم. أضاع السودان من نادى بالاستقلال ، ولم يهيئ البلاد والعباد ، بل لم يهيئ حتى نفسه للمرحلة التي تعقب الاستقلال وخروج المستعمر ، فهي مرحلة دقيقة وحرجة ، مثلها مثل المريض الذي خرج من عملية ناجحة ، لكنه إن لم يحافظ ويتبع التعليمات ، فسيتضرر وتفشل العملية ، ويعود أسوأ مما كان. أضاع السودان من ظنَّه الناس مدنيا ومواطنا صالحا يحكم هذه البلاد ويمضي بها في طريق الحرية والديمقراطية ، ولكنه أسلمها طائعا لعسكري ليحكمنا ، لأن هوس "البيادة" متجذر فينا حتى في نخبنا السياسية. أضاع السودان من فرّط في جزء من أرض الوطن ، ومنح أرضا غالية لدولة مجاورة في عطاء من لا يملك لمن لا يستحق. أضاع السودان من حكم بالظلم والقهر والحديد والنار ، واعتقل المخالفين والمواطنين والوطنيين الشرفاء. أضاع السودان من ظنوا فيه أنه يحمي المكتسبات ويفتح المجال لرياح الحرية أن تهب ، ويتيح لمناخ الديمقراطية أن تثمر ، ففشل وعادوا به مرة أخرى ففشل. أضاع السودان من تنقل بين كل الأفكار وتحول بين كل المذاهب ، وانضم لكل الأحزاب ، فشرّق وغرّب ونحا نحو أقصى اليمين ، وانتبذ تجاه أقصى الشمال ، وفترات يكون مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، وفتح البلاد للطامعين ، وأفقر الخزينة وقمع وقتل وسجن وشرد. أضاع السودان من ظن نفسه خليفة المسلمين ، وتخيل أنه يحكم العالم وليس وطنا فقط ، وفتح البلاد لكل من طردته بلاده. لأضاع السودان مَن فصَلَ الأكْفَاء من العاملين في شتى الوظائف والمناصب ؛ ليحل محلهم من يوالي، فنحن في زمن الولاء والانتماء ، وليس زمن الكفاءة والقدرة ، فالمكان لمن ينفذ أجندة التنظيم ، لا من يخدم الوطن والمواطن. أضاع السودان من مكَّن الحركات المسلحة، وفتت الأحزاب وجعلها تتشظى ، ومن فرط في ثلث مساحة الوطن ليبقى على كرسيه ، فلا الثلث بقي ولا الكرسي دام له.
أضاع السودان من جاء بعد كل هؤلاء ، فكان كالتلميذ الغبي الذي أعيد له الدرس عدة مرات ، ولم يفهم ، فكرر فشل السابقين ، وجمعه كله في نموذج أسوأ ما مر على البلاد ؛ لأن السابقين لهم جانب سوء واحد أو اثنين ، فهذا جمع كل سوءاتهم في شخصه ، وحواها في حكمه ، وتمكن من تطبيقها كلها على هذا الوطن الجريح الذي يصيح ، ولا مستجيب: أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا
أضاع السودان من انتهك العرض ، واحتل الأرض ، وسكن بيوت المواطنين ، وقطع أرزاقهم ، وروع آمنهم ، وشتت شملهم. أضاع السودان كل موظف ارتشى ، وأعطى الحق لغير أهله، ومن تأخر عن عمله ، وخرج مرارا أثناء عمله ليقضي مصالحه الشخصية ، وترك مصالح الناس. أضاع السودان كل عالِم تكلم في قضايا الدين جميعها من الجهاد إلى الحيض ، ولكنه سكت عن الحاكم الظالم فلم ينصحه ولم يحذره ، ولم يبين حرمة الدماء المراقة في شوارع البلاد. أضاع السودان كل نظامي أخل بعمله ، ولم يلتزم قسمه ، ولم يقم بمهامه ، فعرقل مصالح الناس ، وحابى معارفه. أضاع السودان كل فرد في الجيش ترك مهامه وسعى للتكسب والارتزاق واستغلال النفوذ لمآربه الخاصة. أضاع السودان ذلك الذي يعد مثالا مشرفا للانضباط والنجاح في الخارج ، وكان نموذجا مقززا للإهمال والتسيب عندما كان في بلده. أضاع السودان ذلك الطبيب الذي يرى عذابات المواطن أمامه، ولم يبر بقسمه ، ولم يعمل بمروءته ، ولم يتحرك بدافع إنسانيته ؛ فترك المريض يتألم ؛ فيموت ؛ لأنه لم يدفع . أضاع السودان ذلك المعلم المهمل الذي لم يؤد أمانته في رعاية النشء وتعليم الصبية وإرشاد الكبار ، فكان عونا لهم على الفساد ، ومعينا لهم على الفشل. أضاع السودان كل مهندس أهمل في عمله؛ فانهار جسر أو تهتك طريق أو سقط مبنى… أضاع السودان كل تاجر احتكر المواد والمواطن بحاجتها ، ورفع السعر وكان قد اشتراها بسعر قديم ؛ فزادت بسببه فاقة الناس وتفشى الفقر وانتشر العوز .
أضاع السودان كل نفر تجمعوا وفكروا في كيفية أخذ كعكة من هذا الوطن ، فشكلوا حركة مسلحة ، قتلت ونهبت وسرقت وأفسدت وأهلكت الحرث والنسل. أضاع السودان كل وزير جلس في كرسي لا يستحقه ، واستغل نفوذه لأخذ ما لا يستحقه. أضاع السودان من جعل "القونات" قدوة ، ومن رمى لهن المبالغ المالية- وهن يغنين ويتراقصن- وأبناء وطنه بحاجة إلى مصل ثعبان أو حقنة أنسولين أو غسل كلى… أضاع السودان من غنى للقائد الملهم ، ومن قال نقولها نعم ، من غنى لما سماها ثورة ، وسماها إنقاذا ، وجعلها تهب. أضاع السودان كل حزب يغيَّر جلده بتغير الحاكم ، ويتعاون مع أعداء الوطن ؛ ليتمكن من الحكم فهو يمضي بلا مبادئ ولا أخلاق. أضاع السودان كل من ولي أمرا ولم يرع حقه، وحق من وليهم ، ولم يعمل بأمانة وإخلاص ، وافتقد التخطيط والإدارة والقيادة. أضاع السوان من دمَّر الوطن ؛ ليُحرج الحكومات ، وهو قد خلط بين الوطن والحكومة. كل هؤلاء شركاء في دم هذا الوطن ، -ولن أستثني أحدا- ولن يعفيهم دفع دية ، ولن تنقذهم توبة ، ولن يفيدهم عفو أهل الدم ، ولا أحب الخوض في رمي التهم على الخارج، ولا أحبذ نظريات المؤامرة ؛ فمهما تآمر عليك الأعداء ، فإن لم تعطهم الفرصة فلن يتمكنوا منك ، فمَن كان بيته بلا حراسة ، فلا يلومنَّ اللصوص. أخيرا ألا يقرأ حكامنا سير العظماء الذين نهضوا ببلادهم وليس فيها مما لدينا شيء ، فصارت دولا يشار لها بالبنان ، ولا تخطئها العين؟! فالله أعطانا وطنا مليئا بالخيرات ، لا نستحقه ؛ لأننا من الذين يخربون بيوتهم بأيديهم. [email protected]