مهلهل ورثٌّ ثوب الأمن الذي غطى بعض جسد السودان وأبقى الباقي عاريا سنين عددا ، أصابته خلالها علل شتى أرهقت مواطنيه ، إذ سلبت الكثير الأمن والاستقرار ، بل الحياة أحيانا . ظلت الحروب والإحن ديدن السودان منذ فجر استقلاله ، بل قبيل تبيُّن سنا ذلك الفجر فانفجرت في جنوبه ولمَّا ترفع راية استقلاله بعد في سرايا الحكم ، ومنذئذ ظلت رحى الحرب تدور والفواجع تترى ، وظل عصيٌّ على الانكسار ذلك الشعب وإن أُثخن جراحا وأُشبع عللاً وشاحت في مهدها أحلام بالأمن والسلام والنماء . كانت تلك الحروب عواصف عاتية تثور أحيانا فتدمر وتحرق وتجرف وتغرق، إلا أنها في أجزاء دون أخرى ، وأطراف دون الفؤاد حتى صبيحة منتصف أبريل 2023م حين ثار الإعصار وعمَّ الدمار. أُشيع عن السودانيين قيم المروءة والنجدة والمودة والتآلف وغلبة الحلم على حدة الطبع الجبلية للكثير ، لكن الحرب الأخيرة أظهرت الوجه الآخر للعملة ، كما يقال فتسربلت خريطة السودان بالسواد وتدثرت بالحزن والأسى وغشيها من الهم والغم ما غشيها فصار نهار خرطومها وكثير مدنها وقراها ليلا حالك الظلام. إنها الحرب . كانت عامة الناس تعاني في السودان من التخلف عن ركب التقدم وتفتقر لحياة الرفاه فتتذمر وتشرئب لواقع أفضل ، إلا أن حال ما قبل الحرب ، رغم بؤسه ، تحول لفردوس مفقود نحلم بعودته واحتضانه وتقبيل رأسه وقدميه احتفاء به واعتذارا له عما بدر من تذمر حينها. إنها الحرب . كان العامل البسيط متسخ الثياب مغبر القدمين يخرج ليكد طوال نهاره بحثا عما يسد الرمق ويعود مساء بما تيسر لبيت متواضع ملئ الحياة ، يضج صغاره ، وابتسامة على وجوههم فرحا بعودته وتطلعا لما جلب فيهش ويبش وينسى مشقة يومه ويتحفز لمجابهة قادم المشقات . وإذ بالحرب تفاجئه ويراها تتخطف الناس ويخرجون فلا يعودون فينزح مع أفواج النازحين هائما على وجهة يواري حسرته عن صغار جياع البطون عراة الأجسام حفاة الأقدام ذائقة عيونهم لما رأوا من أهوال حفرت عميقا في طفولتهم الغضة ، وصار البيت المتواضع والكد المضني سابقا حلما عزيز المنال. إنها الحرب . كان الموت مجافيا ؛ يزور قليلا ويغيب طويلا ، وعندما يُحكى للصغار عن جد وجدة حضرهما الموت يمطرون ذويهم بوابل أسئلة عن كنه الموت في محاولة لرسم معالم له بالحواس الخمس التي بها يدركون ما حولهم ويرسمون له ألوانا وأشكالا وملمسا وطعما ورائحة وصوتا ، فلا يوائم الموت قوالب الحواس ويبقى في أذهانهم صورة مبهمة يلفهما الغموض ويحفها التوجس ، ثم لا تلبس أن تغرق في النسيان. لكنها الحرب التي جسدت الموت محسوسا لا تخطئه الحواس؛ مشاهد مرعبة وأشلاء متطايرة ودماء سائلة ، صراخ وأنين ونواح ، جثث متعفنة ورعب احتضار ، صور لا تغيب عن الوعي حال اليقظة وكوابيس في الغفوات. إنها الحرب . كانت مدن تزدحم بالحركة وتضج بالفرح وتتزين بصاخب الأضواء ؛ تغفو في ليل هانئ وتصحو على صباح بهيء . تندلع الحرب فيهجرها أهلوها إلى معسكرات لجوء تمتد أميالا من الخيام المبعثرة والعرائش المتناثرة المقامة على عجل بما وصلت إليه الأيدي من خرق بالية وأعواد وأعشاب جادت بها بيئة صحراوية أفقرها جدب وعمقت بؤسها حرب ؛ ومن تخطى الحدود إلى دول الجوار يغني حال الكثير منهم عن السؤال. النعم تدوم بشكرها وتزول بكفرها . والأمن والسلام نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس ، تُدرك بجلاء حين تُفتقد، وبزوالهما أدرك أهل السودان كم كانوا سعداء في بؤسهم قبل حربهم المستعرة ، ووعوا يقينا معنى قوله تعالي (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)) سورة قريش. وتمثل لهم واقعا قول الشاعر المجرب الخبير ، زهير بن أبي سلمي وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم وليس من رأي كمن سمع.