بعد إطلاقنا لمجموعة المصالحلة الشاملة التي لا تستثني أحدا، لا حظ الكثيرون أن جهات عديدة رسمية وغير رسمية، راحت ولأول مرة، تردد ذات الدعوى. قالها مالك عقار ومن بعده الفريق البرهان أثناء زيارته إلى كينيا. ثم قالها آخرون من غير الرسميين. وهذا حسن. بل حسن جدا. فيما مضى شهدنا سيلا من المبادرات التي اتفقت في أمر واحد ألا وهو عبارة (باستثناء كذا … وكذا). وكنا قد قلنا في المقال الأساس الذي نشر بالإنجليزية في ذي غلف تايمز إنه قد حان الوقت لأن يقبل السودانيون بعضهم البعض من أقصى اليمين إلى أقصي اليسار. من الطبيعي أن تضمّ بلادنا تيارات مختلفة تعكس الثراء القومي والتنوّع الفكري، الجهوي مع حرية الانتماء. لعل المتتبع لمسيرة التاريخ يتكشف له أن الآراء المتباينة كلما تفاعلت على نحو إيجابي معافى انتهت إلى خدمة المصلحة العامة رافدة المجتمع والدولة بنمو ملحوظ مطّرد. بيد أن الخلاف إذا تحول إلى تعاطٍ سالب انتهى إلى زلزلة المجتمع وتصديع مكوناته؛ وأول مظهر للتعاطي السالب للخلاف يتمثل في الاستقطاب الحاد الذي يشيطن الآخر ويجعل منه خصما وعدوا عوضا عن التعامل معه كشريك أصيل. هنا يمكن إرجاع جذور الاستقطاب إلى الأنظمة التسلطية التي تدأب على تكريس الفوارق الدينية والفكرية والإثنية والقبلية واللغوية بغية التحكم في مفاصل الدولة والمجتمع. لا ريب أن انعدام شروط بناء الثقة المتبادلة مع ترسيخ صورة نمطية سلبية عن الآخر انتهت بنا إلى حرب دموية لم تبقِ ولم تذر. ولم تزل. فضلا عن أنها أَّصَّلت للعنف وإشاعة الحقد وترسيخ الاحتقان بهدف تمزيق المجتمع وتفتيته بغية التماهي مع الرسائل التي تدأب على بثها وسائل الدعاية الحربية للأطراف المتقاتلة، إضافة إلى الدعوات الجهوية والنوافذ ذات المحتوى القبلي / الإثني المتطرف. نظرا لعدم قبول الآخر قضينا بأيدينا على فترة مهمة من فترات الانتقال في السودان المعاصر. وسنعيد الفعل إن لم نتعظ، لم نتعلم. معروف أن فترات الانتقال غالبا ما تتسم بالتشوش والاضطراب مع فقدان للبوصلة. ففي النظم الاستبدادية تبقى التناقضات خفيَّة وتظل الخلافات كامنة، غير أنه في ساعة التغيير وحلول مناخ الحريات يتخلَّص المجتمع من الخوف فيبادر أصحاب المصالح والحقوق والحاجات إلى المطالبة بها. عليه، تتسم فترات التحوّل الديمقراطي بالهشاشة، كما أنها تكون محفوفة بالمخاطر، ذلك أن الدولة تكون في أضعف حالاتها تهددها الخلافات المفضية إلى توليد العنف؛ في فترات الانتقال غالبا ما تسهم أطراف داخلية وخارجية في تأجيج الخلافات والدفع بها إلى أتون الصراع من أجل إفشال الانتقال الديمقراطي. وهذا ما أوضحته وكشفته الأحداث والأيام. علينا أن نتعلم وأن نعتبر. فإن لم نفعل أضعنا البلد ضياعا كاملا. لابد لنا أن نجلس جميعا نتحاور ونناقش على نحو بناء ينتهي بأن نقبل بعضنا بكافة توجهاتنا مؤسسين لحقبة جديدة قاعدتها مصالحة شاملة لا تستثني أحدا.