ظل الكثيرون على حالة الإنكار بوجود مركز وهامش ، مصرين على عدم الاعتراف بهذه النظرية ، كنوع من المكابرة السياسية ، لتجاوز جدلية هذه "الغلوطية" نرتكز على التعريف الجغرافي للهامش السوداني ، وهو في الحقيقة يشمل كافة أقاليم السودان باستثناء وسط الإقليم الأوسط والإقليم الشمالي ، لعدم خوضهما حروب ضد المركز والذي نعني به العاصمة الخرطوم. يعلم الجميع أن كافة حروب السودان الممتدة منذ فجر الاستقلال ، وقودها أبناء الهامش الجغرافي ، القاتل والمقتول من نفس المكونات، فالنخب المركزية التي تدفع أبناء الهامش اضطرارا لرفع السلاح في وجه حكومات الخرطوم بتصرفاتها الرعناء والمقصودة ، هي ليست مستعدة لخوضها بالإصالة ، أو بالأصح هي لا تملك قوات قتالية تواجه بها الثوار ، من خارج مكونات الثوار أنفسهم، بسبب الخلل الهيكلي المعلوم في الجيش السوداني ، وهو الخلل الذي يرتكز عليها دولة 56. لذا فإن النخب المركزية الحاكمة ، تدفع أبناء الهامش لرفع السلاح في وجهها، ولم تجد صعوبة في شراء من يخوضون غمارها طوعاً أو كرها من ذات المكونات المهامشية المستهدفة. ولتحقيق هذه الغاية ، نجد النخب المركزية تستثمر في صناعة التجهيل للإبقاء على هوامش البلاد داخل حيز التخلف التنموي والانعزال اللوجستي والثقافي ، تعرقل الفرص التنموية بهذه الأقاليم بكافة السبل ، ومشروع طريق الإنقاذ الغربي خير شاهد ، وكذلك إبطاء حركة القطارات الإقليمية إلى أدنى مستوى خلال عهد الإنقاذ ، وأخطر هذه الممارسات خصخصة العملية التعليمية لتصبح سلعة نخبوية بامتياز. بالإضافة إلى تعمد جعل الريف السوداني طاردا ، لتهجر النخب الإقليمية إلى الخرطوم ، لتسهل السيطرة عليها ، عزلها عن مكوناتها. درجت النخب المركزية على اختيار رموز من أبناء الهوامش الجغرافي بعناية لتدخلهم في نواديهم الليلية ، يتعرضون خلال احتكاكاتهم اللصيقة بهم إلى عملية غسل دماغ بصورة ناعمة ، وإلي عملية خداع ذاتي ، يتوهمون أنهم باتوا من النخبة ، شعور خدم المنازل ، ولا يجدون في أنفسهم حرجا من التسبيح بحمد الحكومات المركزية النخبوية ، ولا يتوانون في عرض خدماتهم للبيع ، وبالطبع من يعرض نفسه للبيع في سوق النخاسة السياسية ، بالتأكيد يجد من يشتري. لم تتوقف النخب المركزية يوماً في تقديم الرشا للقادة السياسيين وتجار الحرب والإدارات الأهلية من أبناء الهامش للاصطفاف معها ضد مصالح مكوناتهم ، وللوقوف في وجه الثوار الذين يخرجون عليهم ، يأتي هذا الاصطفاف في شكل تجنيد مباشر أو غير مباشر للعناصر القتالية والاستخباراتية المستعدة لان تكون وقوداً للحروب لصالح استمرارية سيطرة النخبة المركزية على الثروة والسلطة. ورثوا هذه الخصلة من المستعمر البريطاني ، وبرعوا فيها بل تفوقوا على المستعمر ، في تطبيق سياسة "فرّق تسد" على مكونات الهامش السوداني. وضع حدٍ لهذه المأساة مرهون بتنامي الوعي وسط مكونات الهامش بألاعيب للنخب المركزية ، وتدارك أنهم يقتلون أنفسهم لحساب الآخرين ، وأن الذي يشعل النيران ، ويصب عليها الجاز هو المركز ، ليكونوا هم وقودها! . لوقف تكالب ابناء الهامش في الجندية "العبطية" ليكونوا وقوداً للحروب التي تنّكل بأهاليهم ينبغي تأسيس مشروعات تنموية تخلق فرص كسب العيش بديلة للجندية المهلكة ، تكون أفضل من الزراعة الاكتفائية التقليدية، ورفع المظالم الاجتماعية المتراكمة عبر الحقب التاريخية ، عن طريق تطبيق الفدرالية الحقة ، على أنقاض المركزية المتهالكة. وعلى أبناء الهامش الذين يرفعون السلاح في وجه المركز ، الارتقاء من مرحلة المطالبة برفع المظالم إلى مستويات طموح المشاركة في الثروة والسلطة حسب ثقل مكوناتهم الفدرالية ، وتغير وجهة الكفاح لحسابهم الخاص ، مهما كانت التباينات والاختلافات بين المكونات النضالية. ويبدو لنا رغم الانتكاسات الأخيرة والمتمثلة في انحياز بعض حركات الكفاح المسلح للجيش السوداني ، وسط انشقاقات وانقسامات متصاعدة في صفوفهم ، خلال حرب 15 أبريل الدائرة الآن، ضد أبناء جلدتهم من قوات الدعم السريع ، تشفياً أو خشية من خسارة الامتيازات العابرة ، فإن المؤشرات تبشر ، بأفول الدولة المركزية ، وتشتيت شمل نخبها. فمنذ سقوط الخرطوم 15 أبريل 2023م كعاصمة للبلاد والتي ظلت تحك الدسائس والمؤامرات ضد هوامش السودان، سقطت معها هيبة الدولة المركزية، وانكسرت شوكتها وإلى الأبد ، ولم تعد الخرطوم ، تلك القلعة المهيبة "مكان الرئيس بنوم والطيارة بتقوم" وإنما أطلالا من الخراب والدمار والانكسار ، مما يؤشر إلى أفول نيران الدسائس والفتن. منذ أن سقط مبنى الإذاعة ، كأحد رموز المركزية الثقافية القابضة ، ومنح الجيش السوداني امتياز استعادتها لكتيبة البراء بن مالك المتطرفة والإرهابية ، فقد تبدل واقع المركزية التي تستغل أبناء الهامش كوقود للحروب ، ولن تعود إلى ما قبل 15 أبريل بأي حال من الأحوال. لم يجد الفريق ياسر العطا الجرأة والثقة في النفس ، كابن من أبناء النخبة الأمدرمانية ، أن يرفع عقيرته معلنا استعادة إذاعة "هنا أمدرمان"، بل ترك هذا الشرف ، لقائد كتيبة متطرفة ومليشيا غير نظامية. فقد نجحت استخبارات الجيش السوداني ، والأجهزة الأمنية المركزية نجاحاً منقطع النظير في تفتيت شمل شعوب الهامش ، وتأجيج نيران المواجهة بينها لصالح النخب والحكومات المركزية ، ومما لا شك فيه أن الدولة قد أنفقت أموالاً طائلة في المجهود الاستخباراتي القذر ، إلا أنها في خاتمة المطاف ، جاءت آخر العناقيد ثمارا حنظلا بما كسبت ايديها الآثمة. يعتبر السقوط الأسطوري للخرطوم كعاصمة للبلاد، بداية النهاية ، لاستنزاف أبناء الهامش كوقود للحروب العبثية ، سيما إن طُبقت الفدرالية كمنظومة لحكم البلاد بصورة فعّالة ، تفّرق دم السلطة المركزية الغاشمة بين الأقاليم. [email protected]