إذا ما ارتحلت في فجاج الأرض وتعرّفت على شعوب الدنيا عن قرب في ما وراء البحار والمحيطات بعيداً عن نيل الخلود رابط الإلفة بين إنسان السودان العظيم على امتداد ربوعه المترع بالطيبة والأصالة والمروءة والقيم النبيلة.. وشهدت كم من قيمة نصبت ومعان رفعت.. لوجدت السودان وطن الجمال والإنسان في كل ومكان وزمان .. ينفخ الروح في منابعها وجوانبها بنكهة التميّز ومعنى التفرُّد من خلال شخصيات مدن من المعرفة الإنسانية والحضارية التي لا تجدها إلاّ في أصحاب البشرة السمراء. أقول ذلك وفي ذهني مازالت تتحرك لوحة سودانية خالصة على الطريق الرابط بين جدةوالرياض، وبالتحديد في منطقة تدعى «المويّة».. تلهمني عظمة هذا الشعب الأبي الذي مازال يحتفظ ببريقه ونبله وأخلاقه وقيمه السمحاء في بلاد الحرمين الشريفين، وأحسبها كذلك في جميع بلاد المهجر التي بالتأكيد تتشرف بأن تستلهم منها معنى الحضارة الإنسانية الأخلاقية البحتة. هذه اللوحة واحدة من ملايين اللوحات السودانية، ولكن ستظل عالقة بذهني وأكثرها لصوقا به، بسبب أن المناسبة كانت تهمني برغم أنها أشبعتني حزنا عميقا تضيق عنه الأرض، إذ كانت منطقة «المويّة» هذه قد أفقدتني وأفقدت أهالي قرى الوفاق وقرى الشرق السوداني الأدنى عزيزاً علينا جميعاً، ألا وهو قريبي الأخ هاشم إبراهيم الجاك ابن منطقة القصيرة بالجزيرة في حادث حركة مؤلم، لم يدع له فرصة تنفس لرؤية هذا المشهد ولو لبضعة دقائق. وما أن انتشر الخبر ووصل الأحباب والأقارب في مدن المملكة، حتى هبّ الجميع لمكان الحادث، برغم بعد المسافات وظروف العمل وارتباطاته والتزاماته، لتفقّد «ولدنا» بمنطقة «المويّة» حيث كان عزيزنا الراحل قد لفظ آخر أنفاسه في الحال. ولكن كل هذا الجمع الغفير من أهل الفقيد والذي هرع مسرعا لمكان الحادث لم يجد فرصة بأن يقوم بأي شكل من أشكال الواجب في هذه الحالة، لأنه ببساطة أن السودانيين القانطين في تلك المنطقة ما أن عرفوا أن الحادث أودى بحياة سوداني، حتى تركوا ما بأيديهم من أعمال وأشغال وهبوّا لنجدته ظنّا منهم أنه بإمكانهم إسعافه ومن ثم إنقاذه من الموت، ولكن كان الموت أسرع من مروءتهم، فما كان منهم إلاّ أن قاموا بالواجب نحو الميّت وكأنه من فلذات أكبادهم. ووسط هذه المشهد المحزن، لم يجد أقارب الميت بداً من أن يقفوا متفرجين أمام إصرار هؤلاء الفئة السودانية الأصيلة وهم يقومون بواجب ستر الميت، بدءا من حفر القبر إلى ستره ودفنه من جهة، وسقاية أقارب الميت ومحاولة توفير راحة لهم في استراحة أعدوها لذلك من جهة أخرى. وبنهاية هذا المشهد ظنّ أقارب الميت أنه بعد ذلك يتسنى لهم العودة إلى مدنهم ومناطقهم البعيدة، شاكرين لهذه الفئة هذا العمل السوداني البحت، غير أنهم وجدوا اعتراضا شديدا من سودانيي تلك المنطقة، فأثنوهم عن الرحيل والسفر حتى يكرموهم ويطعموهم، فذبحوا لهم عدد من الخراف ووفروا لهم الوجبات ومياه الشرب مع الشاي والقهوة بحماس لم ير له مثيل من قبل. وكان بعد هذه اللوحة السودانية الخالصة، لا بد لأقارب الميت الذين حارهم المشهد أن يسألوهم: من أين أنتم في السودان، وكانت الغرابة في إجابتهم: نحن من كل السودان.. إذ أتضح أن بعضهم من دارفور وبعضهم من الشمالية وبعضهم من الجزيرة وبعضهم من الخرطوم ومدني وكل السودان .. تماما كما قالوا، فهم سودانيون وكفى!! وعندما أذن الرحيل، فإذا بأهل الميت وجدوا صعوبة بالغة في وداعهم تماماً كما هو الحال لدى سودانيي منطقة «المويّة» الذين لم يجدوا غير الدموع وحرقة الفراق عزاءً وكأنهم أبناء بيت واحد وأب واحد وأمّ واحدة فرّق بينهم الزمن فجمعهم في لحظة وفرّقهم، ودعوهم على حالة ينتظروا فيها لحظة جمع الشمل كتلك التي جمعت سيدنا يوسف عليه السلام بإخوته في مصر المؤمنة بأهل الله. وأمام هذا المشهد تجدني عاجزاً عن رسم هذه اللوحة السودانية كما رسمها هؤلاء الفتية، لعدم تمكنني من تصوير المشهد كاملا، فقد كانت كل الكلمات قاصرة عن وصفها، ولكن عزائي فيها أنها أعادت إلينا لوحة من أغلى اللوحات الإنسانية على وجه البسيطة التي كاد الزمن يدثرها ويرمي بها في «زبالة» التاريخ بفعل ممارسات وسلوكيات دخيلة علينا قد ارتكبها بعض المارقين على العادات والتقاليد السودانية، ولكنني أقول إن أمتنا السودانية بخير، لأن أمة هذا دأبها لن يصيبها الضيم بمشيئة الله، وإنهم على موعد مع السكون والطمأنينة والأمان والأمن و?لعيش الرغد قريباً. وتقبل الله الفقيد وألهم آله وذويه الصبر وحسن العزاء.. «إنا لله وإنا إليه راجعون». الصحافة