في أواسط السبعينات من القرن الماضي عاد شاب أصيل الجنوب التونسي معقل كبار المناضلين إلى تونس البورقيبية قادما من الشام بعد أن تشبع بسحر ثقافة الشرق الأوسط ذات المسحة القومية العروبية. عاد الشاب المغترب ليجد نفسه في وطنه غريبا فكريا وثقافيا واجتماعيا، فتونس التي انخرطت في تجربة مشروعها الوطني انتهجت سياسات اقتصادية واجتماعية وثقافية هي أقرب للغرب منها للمجتمعات العربية الغارقة في خطاب قوموي إطلاقي رمزه جمال عبد الناصر، أما رمز تونس فهو الزعيم والمجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة الذي أمسك قبضته على الدولة والمجتمع معا بعد أن تخلص من خصومه وفي مقدمتهم الزعيم القومي صالح بن يوسف وشيوخ جامع الزيتونة. لم يكن ذاك الشاب الحالم بالمشروع العروبي سوى راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التي تخشاها اليوم القوى السياسية الوطنية في تونس. بعد تجربة قومية عربية قصيرة عاشها الغنوشي تحت تأثير ضغط ثقافة الشرق الأوسط اكتشف غربته الثقافية والسياسية في مجتمع تسيطر عليه ثقافة المشروع الوطني التحديثي المناهض للمشروع العروبي حيث دخل الزعيم بورقيبة في خلاف حاد وعلني مع ساحر الجماهير العربية جمال عبد الناصر. كانت تونس في تلك الفترة تعيش تصدعات مشروع الدولة الوطنية بعد فشل تجربة الاشتراكية وتراجع ثقة التونسيين في نجاعة السياسة التنموية التي علق عليها التونسيون آمالا عريضة ما فسح المجال أمام ظهور حركات اليسار التونسي، تلك الحركات التي تسلحت بجرأة نادرة لتعارض سياسة بورقيبة. بدأ راشد الغنوشي نشاطا ثقافيا من خلال قراءات لما ينشره الشباب التونسي آنذاك من شعر وقصص قصيرة على أعمدة جريدة "الصباح" التونسية ذات التوجه القومي، فقد إستهوت كتابات الشباب اهتمامات الغنوشي ليكتشف من خلالها أن حالة الاغتراب ليست حالته الشخصية وإنما هي حالة يعيشها الشباب التونسي الذي تتجاذبه قيم الحداثة الغربية وقيم المجتمع العربي الإسلامي. نفض الشاب الغريب في وطنه ثقته في التيارات السياسية العروبية واليسارية ليولي وجهه شطر الحديث الشريف "جاء الإسلام غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء" واستلهم مرجعيته الفكرية آنذاك من حركة الإخوان المسلمين المصرية وعلى رأسها مؤسسها حسن البناء. مع نهايات السبعينات التقى الغنوشي أصيل الريف التونسي القاحل بشاب سليل عائلة أرستقراطية مدينية هو عبد الفتاح مورو ليجتمعا معا على ما يشبه البيعة لإرساء حركة إسلامية. ويعتبر مورو بلباسه التقليدي رمزا لسكان مدينة تونس وعائلتها الأرستقراطية التي تعرضت إلى تهميش ممنهج من قبل حكم الزعيم بورقيبة بعد إلغاء النظام الملكي وإعلان النظام الجمهوري. بدا كل من راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو نشاطهما في المساجد من خلال إلقاء دروس دينية مفخخة سياسيا استقطبت قطاعات واسعة من طلاب المعاهد والجامعات وقطاعات عريضة من الشباب المحروم والمهمش ضجت بهم مساجد تونس العاصمة وأحيائها الشعبية. كانت الدروس الدينية تعبيرة صارخة عن حالة الاغتراب الوطني حيث اعتمدت بالأساس على رواد الفكر الإسلامي مثل الشيخ محمد عبده وحسن البناء وأبو الأعلى المودودي وجمال الدين الأفغاني إضافة إلى المراجع السلفية مثل بن تيمية وبن قيم الجوزية وبالمقابل تجاهلت دروس الغنوشي ومورو الفكر الإصلاحي التونسيورواده مثل خير الدين التونسي وسالم بوحاجب ومحمد قبادو والطاهر بن عاشور والطاهر الحداد ما جعل الخطاب الديني في تلك الفترة بلاهوية ولا جذور، خطاب إطلاقي لا صلة له بالتاريخ الوطني التونسي، وهي معضلة جعلت من الحركة الإسلامية في تونس كما لو أنها مسقطة إسقاطا على تفاصيل الحياة اليومية للتونسيين. لم تكن أعين نظام الزعيم الحبيب بورقيبة نائمة على نشاط الغنوشي ومورو بل كان نشاطهما يتم وفق هامش سمح به المجاهد الأكبر ورجاله للضغط على الحركة اليسارية التي باتت آنذاك مصدر قلق للنظام. استفاد كل من الغنوشي ومورو من عنصرين أساسيين ليؤسسا في بداية الثمانينات حركة الاتجاه الإسلامي. العنصر الأول يتمثل في الهامش الديمقراطي الذي ناضل من أجله اليسار التونسي، فقد قدمت حركات اليسار خدمة جليلة لحركة الاتجاه الإسلامي من خلال تمهيد أرضية تسمح بهامش معارضة نظام بورقيبة، ويبدو أن حركة الاتجاه الإسلامي لم تنتبه لذلك أو أنها تجاهلتها. العنصر الثاني يتمثل في انسداد آفاق المشروع الوطني وضعف النظام الذي نخرته شيخوخة المجاهد الأكبر وانتكاسات المسارات السياسية. نجحت حركة الإسلامي في شحن قطاعات واسعة من الشباب خاصة في المعاهد والجامعات وأخذتها العزة بنفسها لتدخل في صدام مباشر مع النظام ثم مع أجهزة الدولة، لم تكن الحركة على وعي دقيق بأن تونس دولة مدنية ذات أجهزة ومؤسسات قوية ترفض الخطاب الإطلاقي. لم تقدم حركة الاتجاه الإسلامي نفسها كحزب سياسي يمثل جزء من المشهد السياسي العام بالبلاد وقابل للمشاركة في الحياة السياسية، بل قدمت نفسها كحركة إطلاقية معيارية ما فوق التاريخ والوطن ترفض كل شيء لتقدم نفسها على أنها بديل لكل شيء. رفضت النظام السياسي لأنه غير شرعي، ورفضت النظام الاقتصادي لأنه ربوي، ورفضت الثقافة السائدة لأنها ثقافة تغريب. وبالنتيجة رفضت الوضع القائم والمجتمع معا لتجد نفسها في نهاية المطاف تجدف خارج التاريخ، لذلك لما دخلت في مواجهة مع النظام خذلها المجتمع ولم يقف إلى جانبها رغم التعاطف الكبير معها. حدث لحركة الاتجاه الإسلامي ما حدث للحسين بن علي، فقد كانت قلوب عامة الناس معها وألسنتهم عليها. بل أكثر من ذلك لن تنسى حركة الاتجاه الإسلامي أن عددا كبيرا من شبابها الذي تعلم في الجامعات انسلخ عنها وهي في عمق محنتها. لكن المواجهة الأشد ستكون مع نظام بن علي الذي لم يكن يثق أبدا في حركة الاتجاه الإسلامي ويعتبرها خطرا حقيقيا لذلك لم يتردد منذ بداية التسعينات في تصفيتها وفق عملية ممنهجة تستهدف ما يعرف بتجفيف المنابع. وبين السجون والهجرة في الغرب الذي يتوجس منه الغنوشي توجسا حقيقيا خبر الإسلاميون في تونس طبيعة العمل السياسي بعد أن ضاقت بهم هوامش العمل السياسي في إطار النظام القائم. نشأ جيل جديد ينتمي لحركة النهضة التي عوضت حركة الاتجاه الإسلامي جيل يبدو أنه أكثر لبرالية وربما علمانية يحاول أن يقدم الحركة على أنها حزب سياسي مدني ذي مرجعية إسلامية. هذا ما يبدو في الظاهر على الأقل. ساعدت المحنة التي تعرضت لها النهضة طوال سنوات حكم بن علي في مراجعة طبيعة الحركة وأهدافها لكن دون التنصل من إسلاميتها ومعيارية خطابها وإطلاقية مواقفها. لذلك تفاجأت النهضة كغيرها من الأحزاب التونسية بثورة جيل جديد من الشباب أكثر براغماتية يحلم بحياة كريمة بعيدا عن التنظير الإيديولوجي. ولإقناع المجتمع بأنها طرف سياسي لا غير تقدمت حركة النهضة بملف لوزارة الداخلية "نظيف" من أية إشارة إلى مرجعيتها الإسلامية، الشيء الذي يؤكد أن رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي غادر غربته ليعود إلى واقعية العملية السياسية في تونس. اليوم وبعد حوالي ثلاثين سنة من العمل السياسي وبعد الثورة لا زالت حركة النهضة تثير خشية القوى الوطنية والديمقراطية، فالمجتمع التونسي المسلم ليس في حاجة لمن يعلمه دينه أو بالأحرى ليس في حاجة لمن يقدم نفسه ناطقا باسم الإسلام. صحيح أنه لا يشك أحد في أن النهضة التي أفرزت قيادات شابة إلى جانب شيخها راشد الغنوشي تحاول أن تخوض تجربة سياسية على الطريقة التركية لكن مرجعيتها الموغلة في المعيارية تبقى غريبة عن خصوصيات المجتمع التونسي غربة عودة زعيمها من الشرق في سبعينات القرن الماضي. أما وقد حررت ثورة الشباب تونس من كل طابوهات الاستبداد السياسي وانفتاح المشهد السياسي أمام كل القوى السياسية فإن التاريخ التونسي يفتح أمام النهضة فرصة لم تكن تتوقعها، ومن المستحيل أن تستفيد من هذه الفرصة إلا إذا تخلصت من غربتها وتجذرت في خصوصية الثقافة السياسية التونسية. ولعل أهم تحد يواجه حركة النهضة هو إقناع التونسيين بأنها حزب سياسي يتطلع للمساهمة في حل مشاكل المواطن ويعمل على ضمان حقوقه بما فيها حرية المعتقد ولن يتدخل في الحياة الشخصية للناس وأنه لن يمس مكاسب دولة الاستقلال باعتبارها مكاسب وطنية تحققت نتيجة نضال أجيال من المصلحين الوطنيين. تتوجس مختلف التيارات اليسارية من ازدواجية خطاب حركة النهضة: خطاب ديني سلفي يشحن فئات واسعة من الشباب في المساجد، وخطاب سياسي يحاول أن يقنع الفاعلين السياسيين أن الحركة جزء من المشهد السياسي العام في البلاد. ومما يعمق تخوف اليسار وقطاعات عريضة من المجتمع المثقف هو مشاركة حركة النهضة في المسار السياسي بعد الثورة. أغلب المراقبين كانوا يقدرون أن النهضة لن تستأثر بأكثر من 30 بالمائة من أصوات الناخبين في انتخابات المجلس التأسيسي ولكنها نجحت في انتزاع أكثر من 40 في المائة من أصوات الناخبين ويذهب عديد المحللين السياسيين إلى القول بأن النهضة نفسها مقتنعة بخطورة الاستئثار بأصوات الناخبين لأن ذلك سيجعلها في الواجهة: واجهة المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتخبط فيها تونس وتعجز النهضة عن حلها لغياب برامج واضحة من جهة ولعدم خبرتها في ممارسة السلطة من جهة ثانية. لكن لا أحد بإمكانه أن يتجاهل شهية النهضة للسلطة وممارسة الحكم، ولئن كان ذلك من حيث المبدا مشروعا فإنه على المستوى الواقع يطرح على التونسيين تخوفات من نزعة النهضة إلى الهيمنة على مؤسسات الدولة بل أكثر من ذلك هناك تخوف حقيقي من تغيير النظام الجمهوري بما يعنيه ذلك من تراجع عن مكاسب دولة الاستقلال. خلال الحملة الانتخابية حرص الغنوشي أن يطمئن التونسيين على مكاسبهم وأن يقترب من مشاغلهم اليومية وفيما كانت تيارات اليسار تخاطب النخب المثقفة التي لا تمتلك عمقا شعبيا كان الغنوشي وأنصاره يخاطبون أبناء الأحياء الشعبية الفقيرة المتاخمة للمدن وأبناء الجهات المحرومة التي أنطلقت منها الثورة فنجحت النهضة في اكتساح معاقل حزب التجمع المنحل وخاصة المدن الساحلية بالإضافة إلى إعادة أداء نشطائها في معاقلها التقليدية. وفي كل الحالات أمام حركة النهضة في تونس فرصة تاريخية لمراجعة نفسها فكريا وسياسيا وأن تساهم في الحياة العامة كحزب سياسي مدني وإن لم تفعل وأصرت على عدم الفصل بين مرجعيتها الإسلامية وشروط العملية السياسية فإنها ستدفع بالبلاد إلى مزيد من الضغط الذي لن يقابله التونسيون إلا بالرفض، بعد أن تكون قد عادت لتدفع بنفسها إلى حلة من الاغتراب الفكري والسياسي. ما تخشاه قوى اليسار في تونس هو أن تستسلم حركة النهضة لسطوة مرجعيتها الدينية فتفتك بشروط العملية السياسية ومن ثمة تعيد إنتاج منظومة الاستبداد وتقوض عملية الانتقال الديمقراطي. لكن راشد الغنوشي بدا بعد فوزه في الانتخابات أكثر حذرا في تصاريحه وكلماته إلى التونسيين وذهب إلى حد القول بأن حركة النهضة لن تمس مكاسب التونسيين وفي مقدمتها مكاسب المرأة وزاد أنه سيحترم التونسيين والتونسيات بما في ذلك اللباس.. ابعد من ذلك قال الغنوشي أنه لن يمنع بيع النبيذ ولا لباس البكيني في المسابح وعلى الشواطئ. وبعد أن حصلت على 90 مقعدا من مجموع مقاعد المجلس التأسيسي ال 217 أي ما يمثل نسبة 47.41 بالمائة تكون حركة النهضة قد حملها نصف الناخبين التونسيين أمانة مزدوجة، الحفاظ على المكاسب السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تحققت بفضل نضالات المصلحين منذ منتصف القرن التاسع عشر من جهة، والخروج بالبلاد من الأوضاع الهشة من خلال إرساء مقومات دولة قانون ومؤسسات ومجتمع تعددي ديمقراطي. لقد منح التونسيون أصواتهم لحركة النهضة بعد أن خبروا على امتداد نصف قرن الحكم الفردي المبني على الزعيم الواحد والحزب الواحد والرأي الواحد، منحوها أصواتهم وهم يتطلعون إلى أن تقطع تونس نهائيا مع أشكال الاستبداد السياسي والاجتماعي من أجل بناء مستقبل جديد ينعم فيه المواطنون بالحرية والكرامة بقطع النظر عن انتماءاتهم السياسية وبقطع النظر إن كانوا متدينين أو غير متدينين. إن فوز حركة النهضة الذي جاء نتيجة عملية انتخاب ديمقراطية وشفافة هي الأولى من نوعها في العالم العربي هو بالأساس "أمانة" حملها التونسيون للحركة التي ناضلت أكثر من ثلاثين سنة من أجل الحرية وحق الاختلاف والمشاركة في بناء مجتمع لا إقصاء فيه ولا تهميش. إنها أمانة مزدوجة، أول أبعادها الحفاظ على مكاسب حققتها تونس بفضل نضالات مفكريها ومصلحيها وهي مكاسب تتجاوز نظامي بورقيبة وبن علي لأنها تعبر عن كفاح التونسيين وفي مقدمة تلك المكاسب الدولة المدنية التي تحترم الحريات الشخصية والعامة، دولة لا ولاء فيها إلا لتونس وهو ما يقودنا إلى مكسب المواطنة الذي هو القاسم المشترك بين التونسيين بقطع النظر عن انتماءاتهم الاجتماعية. كما حمل الناخبون حركة النهضة أمانة المحافظة على خصوصيات المجتمع التونسي المتسامح الذي يتعايش فيه كل أبنائه في إطار مناخ من التضامن والوسطية وبعيدا عن أشكال الضغينة. أما ثاني أبعاد الأمانة فإنه يتمثل في تطلع التونسيين إلى أن تحقق النهضة، وفق وعودها خلال الحملة الانتخابية، نقلة نوعية في تاريخ تونس على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لا شك أن هناك تطلعات عاجلة ليس من السهل الاستجابة إليها وفي مقدمتها تشغيل العاطلين وتوفير الحياة الكريمة للمواطنين ولكن ذاك هو قدر النهضة التي وعدت وما عليها إلا أن تفي بوعودها. لكن تطلعات التونسيين هي أبعد من معالجة المشاغل اليومية وإن كانت تحظى بأهمية خاصة، فالتونسيون يتطلعون إلى دولة المواطنة والمؤسسات وإلى مشروع مجتمع تعددي ديمقراطي يكفل للجميع حق الاختلاف وحرية الرأي، مجتمع وسطي ينبذ العنف والتشدد، كما يتطلعون إلى إرساء نموذج تنموي تضامني يقطع مع مظاهر الثراء الفاحش والفقر المدقع. بهذا المعنى يكون فوز حركة النهضة أمانة حملها إياها التونسيون وعليها أن تتحمل مسؤولية الاستجابة لتطلعات التونسيين الذي سيختبرون بوعي وبتيقظ مدى التزامها بوعودها على جميع المستويات. ميدل ايست أونلاين