(الديكُ حيوان جدير بالثقة. فهو يصيح عند الفجر دائماً. لكنه يعجزُ عن التحليق باتجاه الأعالي. أنه يصيح فقط. قد يعول المرء على الكلام وحده ليوقظ الإخلاص في نفوس الآخرين. وهو أمر قد ينجح أحياناً، ولكن عواقب الاستمرار فيه وخيمة.) كونفوشيوس/ الإيجينغ. صورتان أثارتا أهتمامي وفضولي مؤخراً للبحث أكثر عن صاحبتي الصورة. صورة الفتاة المصرية علياء ماجدة المهدي التي- على ما يبدو- هزّت العالم وأثارت حفيظة وحنق المتشددين والرافضين لهذا النوع من التعبير عن الحرية. ولكن يبدو أن الحنق لم يقتصر على المتشددين فحسب، بل أصاب أيضاً فئة غير قليلة من (دعاة الحرية) والليبراليين. هذه الصورة التي اختارت علياء أن تظهر فيها عارية تماماً إلا من كلسات شفافة وحذاء أحمر وارتأت أن تعرضها على مدونتها الخاصة أمام الملايين. وبالرغم من وجود تحذير مسبق قبل دخول المدونة بأن الموقع فيه صور عارية لا تصلح للصغار إلا أن زوار المدونة تجاوز المليون في اليوم الثالث من عرض الصورة. الصورة بدت عادية جداً بالنسبة لي، وللوهلة الأولى ظننتها صورة لفتاة اسبانية أو من أمريكا اللاتينية في فترة الستينات، خاصة وإنها فضلت أن تعرضها بالأسود والأبيض. الصورة الأخرى التي شدّتني بالفعل وأدخلتني في عالم آخر ربما يوازي حمى انشغال الناس بعري علياء المهدي، بل وأكثر، هي صورة فتاة مصرية من الميدان، التي اقتنصت الكاميرا نظرتها وهي تتطلع إلى المجهول حاملة بين يديها الصغيرتين قطعاً من الطوب المتكسّر. بقيتُ قرابة ساعة أنظر في وجه الفتاة وملابسها وطريقة ترتيب قطع الحجارة المتكسّرة وكأنها تحتضن هرماً صغيراً من الأمنيات، كلما رمت بأمنية تحققت لها خطوة اضافية إلى الأمام لتحقيقها. قضيتُ يوماً كاملاً اسأل عمن يعرف هذه الفتاة وما اسمها دون جدوى حتى وجدت المعلومات عنها مصادفةً. هي (شروق) فحسب. فتاة من ميدان التحرير بالقاهرة، كانت قد باتت هناك ليلة 19 من نوفمبر، ليلة اشعال فتيل الثورة الثانية، وكانت كلما همَّ شاب بمغادرة الميدان امسكت بذراعهِ وشدّته قائلةً له: مفيش رجالة تسيب الميدان! )شروق) أو فتاة الميدان كما أحب أن اسميها، بملامحها الطفولية الدقيقة ونظرتها العاتبة على العالم الغارق في الظلم، بوجهها المخضّب بالتعب وتراب الميدان، بوشاحها الأبيض الذي بالكاد كان يحميها من قرصات البرد ليلتها، بأناملها الصغيرة الغضّة التي استطاعت أن تروض بها قسوة الحجارة لتكون رهن اشارتها ساعة القرار، استطاعت أن توصل رسالة واضحة لكل من يجهل ما معنى السبيل إلى الحرية وكيف. كان بمقدورها أن تبقى بعيدة وتحافظ على نعومة أناملها وربما تجدد صبغ أظافرها في انتظار الفارس المخلّص الذي سيضعها في (صندوق الزوجية المحترم). كان بمقدورها أن تبقى بعيدة عن ساحة المعارك (الصخرية) كأن يكون في مقهى قريب من الميدان وتحتسي الشاي الأخضر وتمارس النميمة الثقافية قليلاً ثم تعود إلى البيت لتتحمم بكل لطف وتتفرغ بعدها للتحدث عن بطولاتها (الفردية) في تنفس الغاز (الجديد) على المواقع الاجتماعية، في حين أن تنفس الغاز الجديد أصبح بطولة للجميع في ظل انتشاره السريع وتجاوزه محيط الميدان. علياء ماجدة المهدي، فتاة باحثة عن الحرية المطلقة، ولا ترضى دونها، مطلقة بكل المقاييس. كل ما تملكهُ من جسد وفكر وصحة ووجود يخصّها هي وحدها فلا أحد يحق له أن يمارس عليها دور الوصي طالما لديها الوعي الكافي للتعامل مع وجودها. هكذا ترى علياء الحرية: كاملة بدون نقصان، ولم تجد تعبيراً أفضل من عرض صورتها عارية لترفع بها مرآة الحقيقة في وجه كل من يدّعي الحرية ولا يمارسها وفي وجه كل من يرى في الحرية حدوداً لا يجوز تجاوزها. مفهوم الفتاة عن الحرية جاء من اسلوب حياتها الذي فضلت أن تعيشهُ كما تحب هي أو كما تراه يجب أن يكون. بدون رتوش وبدون دعوة بلا تنفيذ. نحنُ نعلم أن هناك الكثير ممن يدعون إلى الحرية بل نقرأ أنهم أصبحوا (مناضلين- مناضلات) يتصدرون الصحف الغربية كأبطال يحاربون الجهل والظلم قبل الصحف العربية والمحلية نفسها. لا أعرف كيف أصدق من يبحث عن الحرية ولا يتنازل عن أشياء بعينها تحدُّ من حريتهُ شخصيا. علياء اختارت التعبير الصحيح تماماً لدعوتها ونفّذته بنفسها ولم تستعن بموديل أو بأجساد آخرين ولم تنشر صورتها في مجلة ممولة أو في موقع مدعوم. بل نشرتها في موقعها الخاص المجاني والذي بامكان أي واحد أن ينشئ مثله في دقائق. كانت علياء على قدر من الوعي أنها ستواجه العقوبات القانونية لخطوتها تلك، ولكن مثلما دعت في صورتها إلى حرية متكاملة غير منقوصة فيجب عليها من منطلق مسؤوليتها عن فكرها أن تتحمل كل النتائج، وأظنها هذا ما قصدته وتقصدهُ، إذ لا يكون هناك لفت نظر إلى قضية ما بدون ضحايا. أمّا (شروق) فتاة الميدان، اختارت أن يكون تعبيرها مماثلاً لتعبير علياء من حيثُ المبدأ، ولكن كل واحدة منهن عبّرت بطريقتها الخاصة وفي مكانها الذي تنتمي إليه بحسب نظرتها. لقد وجدت فتاة الميدان ضالتها في الحجارة والمبيت في الميدان وأن تكون في الصفوف الأمامية للمواجهات لتكون أقرب إلى الحقيقة التي تود أن تعيشها بإرادتها. بعيداً عن الأضواء، سوى عدسة الكاميرا البسيطة التي اقتنصت نظرتها في لحظة غفلة، وبعيداً عن نعيم الحياة اليومية. لا أعتقد أنها تعتبر هذا تنازلاً عن بعض الرفاهية التي تعيشها الأخريات، بل تراه واجباً عليها كباحثة للحرية المطلقة التي لا تحدّها الحدود إلا بحدود مفهومها هي وحدها. دُعاتنا ودعاتهم. لم نسمع يوماً عن أنجيلينا جولي، الممثلة الأمريكية المعروفة، دعت للوقوف إلى جانب المتضررين واللاجئين والجوعى في أنحاء العالم دون أن تكون في ميادينهم وتقترب منهم ومن أوجاعهم وأمراضهم متنازلة تماماً عن الحياة المخملية التي تعودتها في عالمها الهوليوودي. تخرج إلينا بصورها وأفلامها من المناطق الساخنة بدون مكياج وغبار الأحداث يغطي شعرها وبملابس بسيطة تمكنها من الحركة بكل حرية والتنقل بين آلام البشر. تذكّرتُ أنجيلينا جولي وبعض التعليقات العربية عن مبادراتها تلك على انها تنفذ أجندات غربية تخصُّ مرجعيتها الأمريكية فيما كنتُ أقارنها ببعض (دعاة) الحرية عندنا، حيثُ تظهر الواحدة منهن بكامل زينتها غير متنازلة عن معطفها المصنوع من الفراء الطبيعي وملمع الشفاه غالي الثمن، ولا تقبل أن تتنقل إلا بسيارات فارهة من الفندق إلى مكان تسجيل حواراتها، والتي ستتحدث فيها بكل ألم وحسرة عن الحرية المسلوبة لنساء أمتها! أي أجندة يا ترى ينفذها دعاتنا بالمقابل!؟ من يريد أن يقضي على الأمية والجهل والمرض ينزل إلى القرى والأرياف حيث لا يستطيعون مشاهدة حواراته (ها) وهو يتحدث عن حريتهم المسلوبة. الجوعى في أفريقيا لا يعرفون من هي أنجلينا جولي الممثلة، لأنهم لا يجدون لقمة العيش ليملكوا تلفازاً وثقافة هوليوودية، ولكنني على يقين أن البعض منهم عرفوها كامرأة أجنبية مهمومة بهمهم حين شاركتهم مخيماتهم واقتربت من أوجاعهم. علياء لم تعرف معنى الخطر على الحرية الكاملة إلا عندما تعرّت كاملاً متجاوزة بذلك حاجز الخوف لتعبيرها ومكمّلة فكرها في معنى الحرية بالنسبة لها. شروق، فتاة الميدان لم تدرك وظيفة أخرى ليديها إلا عندما لمست خشونة الموت في أعين أصحابها هناك، ولم تدرك معنى أن تكون حرّاً إلا بعدما نزعت كل الأقنعة عن وجوه الدعاة بنظرتها المعاتبة إلى العالم المليء بالظلم والتجاهل. وكم من شروق وكم من علياء لا نعرفُ عنهن ولم نسمع بهن بعد. هؤلاء لا يطالبون الآخرين بالاحتذاء بهم وليس مطلوباً من الجميع التعبير بطريقتهم عن الحرية المطلقة، ولكن أعتقد أن من حقهم الاحتفاظ بزاوية مميزة لهم وتنبيه البعض أن لا يركبوا موجة لا يقدرون على قيادتها. البحر يكذَب الغطّاس، هذا ما تعلمناه، فإن لم تكن بمستوى مسؤوليتك عن دعوتك فلا تدعو لها ولا تصرح بها ولا بأس أن يكون لك نسق حياة خاص بك وليس هناك من ضير أن تكون مناصراً لهم، بل هذا أقل واجب، ولكن ليس داعياً وبطلاً على ورق. اكتفِ بالصياح في مطلع كل فجر واقنع بعدم قدرتك على الطيران عالياً. الكلام سهل والدعوة أسهل من منبر أو خلف شاشة ولكن (الميادين) هي الحكم بالأخير. صورة علياء العارية، ونظرة (شروق) العاتبة لا تقولان سوى شيء واحد: كُن نفسكَ فحسب. * كاتبة من العراق القدس العربي