كرّم الله سبحانه وتعالى القراءة في أول سورة في القرآن الكريم: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) العلق: 1 وكذلك كرّم الكتاب عندما جاءت مفردة الكتاب في العديد من آيات القرآن الكريم، ففي سورة البقرة مثلاً وردت مفردة الكتاب ثمانية عشر مرة ومنها: (ذلك الكتاب لا ريب فيه) البقرة: 2 (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون) البقرة: 53 (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويعلمكم الكتاب والحكمة) البقرة: 159 كما وردت نفس المفردة خمسة وعشرين مرة في سورة آل عمران ومنها: (نزل عليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه) آل عمران: 2 وفي سور أخرى كثيرة: (وكتاب مسطور) الطور: 2 (تلك آيات الكتاب الحكيم) لقمان: 2 (فيها كتب قيمة) البينة: 3 (في كتاب مكنون) الواقعة: 78 وقد اعترف الجاحظ بفضل الكتاب عندما قال: (الكتاب نعم الذخر والجليس ونعم المشغل والأنيس والكتاب وعاء مليء علماً وحشى ظرفاً) إلى أن يقول (والكتاب هو الذي إن نظرت إليه أطال إمتاعك وشحذ طبعك وبسط لسانك وجود بيانك وفخم ألفاظك) وقال الشاعر الشفيف المتنبئ في فضل الكتاب: أعزٌ مكانٍ في الدُنا ظهر سابحٍ وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتاب ولقد احترمت أجيال السودان الكتاب ووضعت له مكانة عظيمة في النفوس باعتباره غذاءً للعقول وانطبق على ذلك الجيل المتطلع الأصيل مقولة: مصر تكتب وبيروت تطبع والخرطوم تقرأ.. الآن تراجع وتدنى الاهتمام بالكتاب بعد أنْ سيطر منهج الارتجال على الموقف تحت شعار: للحشو والحفظ فقط وأحكمت الأزمة المعيشية قبضتها على المواطن وأصبحت الأسبقية للرغيف ومن قبل قال الشاعر المبدع البياتي: هذا الرغيف.. كلم يُخيف..!!! الوسائل التعليمية تقدّم للطلاب الخبرات البديلة عن الخبرات الواقعية ويستعين بها المعلم في توصيل مادة الدرس وفي كل المواقف التعليمية المختلفة يستخدم المعلم كل ما يفيده في تقديم مادته مثل الكتاب، السبورة، الصور، الرسوم، النماذج والمعلم المبتكر (Creative) الذي يستخدم الوسائل بالصورة المثلى يضفي على درسه الكثير من الحيوية والإثارة بجذب انتباه الطلاب ومساعدتهم على التفكير الصحيح السليم والملاحظة الدقيقة وتنمية مقدراتهم في البحث والابتكار والكتاب كوسيلة تعليمية تقليدية يقدّم المادة بصورة منتظمة ويُساعد الطالب على التعلم الذاتي بما فيه من تدريبات وتمارين وصور ورسوم وبيانات تشجع الطالب على المزيد من التأهل والبحث والملاحظة والمقارنة والموازنة. لقد تطرّق الكثير من التربويين والخبراء إلى موضوع الكتاب المدرسي باعتباره وسيلة أساسية لتوصيل المادة التعليمية للطلاب ولابد من توفيره بالصورة الكافية المطلوبة لكل مدارسنا وعلى الرغم من تطور الوسائل التعليمية وما وجدته من تحديث وتجديد (updating) في ظل العولمة التي نعيشها إلا أننا نرى أن الكتاب يمثل ركيزة أساسية راسخة لا يمكن تجاوزها. إن هاجس الكتاب ظل قائماً في كل مؤتمرات التعليم بالرغم من إنشاء مطابع للكتب بكل الولايات بالإضافة إلى العمل الضخم الذي قامت به هيئة التربية للطباعة والنشر (سابقاً) الأمر الذي يزيد الهاجس ووزارة التعليم. تتوارى حرجاً أو خجلاً أو عمداً ولا تجيب ولا تفيد وهكذا تموت المعلومة الصحيحة كما تموت الحقيقة في الحياة! وبين ظهرانينا نرى أرصفة السوق العربي ملأى بشتى أنواع الكتب لكل المواد ولكل المراحل تباع المساويك والمناديل وأدوية سم الفأر وتبييض الأسنان والسؤال المطروح المشروع: كيف تسربت هذه الكتب وبهذه الكميات الضخمة في حين أن المدارس تشكو من الغياب التام والنقص الحاد!!! ففي زمن جميل مضى كانت مصلحة المخازن والمهمات هي المسؤولة عن إمداد كل احتياجات المدارس من كتب وأثاث وأدوات وكانت هذه تصل للمدارس بالاسم: مدني الأهلية، القولد الأجرية، الدويم الريفية، جوبا بنات، جبيت الصناعية قبل وقت كافٍ من بداية العام الدراسي بالإضافة إلى المراجع والمراشد وأدوات وأثاثات الداخليات وملابس العمال بل شملت تلك الاحتياجات حتى مرايا الحائط وطست الغسيل وقلة الماء..! كان ذلك في زمن بهيج زاهر مضى حين كان النهج واضحاً والتخطيط صحيحاً سليماً ووقتها لم تظهر حمى المؤتمرات والشعارات وحرث البحر والحلقة وأبواق السلطان، بل كان التعليم حقاً للجميع ولكل أبناء السودان وكان التعليم مسؤولية الدولة تجاه مواطنيها والآن يتساءل الكثيرون عن هذا الكم الهائل على أرصفة أسواق الخرطوم فقط وهنالك مدارس بعيدة ومهمشة ظمأى للعلم في أم كدادة وأبو هشيم وود المنسي ذلك النبوغ المحروم الذي يتطلع إلى نفسي من كتاب!!! ولمعلومية هذا الجيل (الداقس) فإن مصلحة المخازن والمهمات هي الجهة الوحيدة المناط بها إمداد كل الوزارات والمرافق الحكومية والمستشفيات والمدارس بكل احتياجاتها ويعمل فيها الموظف عفيف اليد واللسان والمسكوت بعشق الوطن ومشاعر الإحساس بالمسؤولية بحكمة الضمير والقانون وظلت تلك المصلحة تسير هكذا انضباطاً والتزاماً حتى افترستها الخصخصة حيث دخلنا في زمان الهرولة ومسلسل السقوط في التربية الوطنية ليظهر لنا آل أبي القاسم وتظهر لنا مافيا الفواتير المبدئية التي أفرزت الكروش والأوزاج وتطاول البنيات واختصار الوطن في الذات والعياذ بالله!!! هل نأمل أن تستيقظ الدولة من غفوتها لتقرر بشجاعة أن أول اهتماماتها التعليم باعتبار أن التعليم أساس التنمية الاجتماعية والاقتصادية وهل نحلم بأن (نفرة التعليم) هي الأسبق وهي التي تقود إلى (النفرة الخضراء) وهل نحلم برد الاعتبار والاحترام للكتاب لنعيده إلى الشبكة التربوية ويدخل بيوتنا وتكون القراءة للجميع...! ونحن في انتظار (جودو) هل نأمل أو نحلم في سماع رجع الصدى أم نظل نردد في حسرة وأسى: جف على أوراقه الذابلة الندى... واحترق الهمس على محرقة المدى... تبعثرت سدى... أحلامنا البهيجة الخضراء.. حين انتحر الصدى.. أواه يا قلبي الحزين.. حوار الصمت في أعماقنا بدا...!!! صلاح الطيب الأمين