عبّرت السينما منذ وجودها وإلى اليوم عن التفاصيل والأحلام الإنسانية، فعالجت قضايا وطرحت أخرى ضمن قوالبها الدرامية. وكم في السينما من أفلامٍ لامست الجراح لدرجة أنها أبكت مشاهديها. وكم من أفلامٍ خالدة لا تموت، بمعنى أنها صالحة لأكثر من زمان وأكثر من مكان. وها هو فيلم "البريء" لمؤلفه وحيد حامد ومخرجه عاطف الطيب ينهض أمامنا وكأن أحداثه تجري اليوم في زمن الثورات العربية، في زمن تكسير المفاهيم الجامدة التي حفظناها عن الوطن وأعدائه، لنكتشف وطناً جديداً بأعداءٍ جدد يتطلبون منا وسائل دفاع مختلفة تماماً عن تلك التي عرفناها في السنين الماضية. فالفيلم "البريء" يتناول قصة حقيقية حدثت مع مؤلفه وحيد حامد شخصياً خلال انتفاضة 17 و18 يناير عام 1977 التي قامت لرفض الفساد السلطوي آنذاك. وتحكي عن إنسان بسيط اسمه أحمد سبع الليل قام بدوره الفنان أحمد زكي، وهو يعيش في الريف المصري الفقير مع أمه وأخيه المختل عقلياً. وكل ما لديه عن مفهوم الوطن والمواطنة هو قطعة الأرض التي يزرعها ويرويها كل يوم. والناس في تحليلاته الساذجة ينقسمون إلى أشرار أو أخيار ولا مجال لأي لون وسطي بينهما. وأما أعداء الوطن فهم أولئك المدججين بالسلاح مطلقين النار باتجاه أرض الوطن وأبنائه. وغير هذه المفاهيم البسيطة جداً جداً لا يمكن أن يستوعب شيئاً. فهو بسيط لدرجة أنه ذهب إلى صديقه الشاب الطيب "حسين وهدان" عند استدعائه إلى الخدمة الإجبارية، ليشرح له مفهوم التجنيد والجندية كونه المثقف الوحيد في القرية. ولما شرح له حسين بأن التجنيد هو وسيلة للدفاع عن أرض الوطن، ردّ ببراءة مستفزة للمشاعر "بس بلدنا ما لهاش أعداء" وعلى هذه الجملة بالتحديد يقوم الفيلم درامياً وفكرياً.. فهل فكرة العدو موجودة حقاً، أم أنهم اخترعوها لإبقائنا تحت السيطرة؟ وإن وجدت فمن هو العدو الحقيقي؟ ولا نعرف هل نقول من سوء الحظ أم من حسن الحظ، انتهاء المطاف بأحمد للخدمة كحارس في أحد المعتقلات. وهذا طبعاً بعد خضوعه للفحص الطبي والثقافي وبعد اتضاح أنه أمّي وجاهل حيث هو المطلوب. وهناك في المعتقل يتعلم أسلوب "نفّذ ثم اعترض" وحتى هذه الثانية لا مجال لوجودها، فالاعتراض في المعتقل مساو للانتحار، مما يكرس أفكاره البسيطة والجامدة أكثر. ويظل على هذه الحال إلى أن تأتي إحدى سيارات المعتقل القميئة بعدد جديد من المعتقلين، المتعود على ضربهم وإهانتهم هو وبقية رفاقه كوسيلة ترحيب أولية بهم. ليتفاجأ بأن حسين وهدان الصديق الطيب والوفي من بينهم. وهنا تبدأ مرحلة جديدة من الصراع العاطفي والعقلي عند بطل الفيلم أحمد سبع الليل. فكيف يمكن لحسين وهدان أن يكون من أعداء الوطن؟ وهل خدمة الوطن أو "الجندية" تعني أن نقتل أبناءه؟ نفس السؤال تقريباً واجهه أشخاصٌ كثيرون هذا العام، وهو المأزق نفسه الذي وضِع فيه الكثير من حراس المعتقلات أو "العناصر الأمنية" ضمن موجة الاعتقالات التعسفية التي واجهت بلدانا عربية كثيرة ولا تزال مستمرة حتى هذه اللحظة. عدا عن ذلك فإن الفيلم بشخصياته المطروحة اقترب من الحقيقة الخطيرة المحصورة بين جدران أو أسوار كل معتقل. فالضابط توفيق شركس الذي أدى دوره الفنان محمود عبدالعزيز هو نمط متكرر موجود خلف معظم المكاتب الأمنية العربية، فهو إنسان يعاني من انفصام بالشخصية، لأنه يجمع شخصيتين متناقضتين تماماً. ففي بيته ومع عائلته نراه الأب الرحيم والزوج الجيد، وأما في المعتقل فهو المريض السادي الذي يلقي على مسجونيه أبشع أنواع التعذيب وأكثرها شناعةً. وإلى جانب نموذج السلطة طرح الفيلم نماذج للمعتقلين الموجودين في السجون. فنرى الكاتب المثقف وأستاذ الجيولوجيا وغيرهم من العقول المتفتحة في بلداننا العربية، والتي كل ذنبها أنها حاولت رفض الفساد والتطلع إلى حرية أكثر بريقاً. وعبر الشخصيات والأحداث المتتالية في الفيلم، عولجت أكثر من قضية كان أهمها فكرة الحرية بكل معانيها. ففكرة معتقَل ومعتقِل إلى جانب بعضهما البعض مع إظهار الفرق بينهما هي مقاربة كافية للحرية المنشودة والمسلوبة في الوقت ذاته. هذه الحرية التي تدعمها فكرة حقوق الإنسان من خلال رصد المعاملة السيئة للمعتقلين في الفيلم، وكأن الأرواح البشرية هي ملك لزعماء النظام يحيوها متى يشاؤون ويقتلوها متى يشاؤون. وما يعزز تناول الفيلم لفكرة حقوق الإنسان، هو الإجراءات التي قامت بها إدارة السجن من إنشاء مكتبة وملعب كرة قدم فور انتشار خبر قدوم لجنة تفتيش إلى السجن. كذلك تطرق كل من المؤلف والمخرج إلى فكرة الجهل الخادم للسلطة، فما من شيء ينفع الديكتاتوريات أكثر من المواطن الجاهل الذي لا يفقه شيئا عن تاريخه وحاضره وعن حقوقه وواجباته. فالمواطن من هذا النوع شبيه بالآلة بيد النظام يتحكم به كيفما يشاء. فلما حاول أحمد زكي في الفيلم أن يحكّم عقله، انتهى به الأمر في زنزانة واحدة مع صديقه حسين وهدان الذي مات في المعتقل. وأما نهاية الفيلم فصوّرت الحالة التكرارية الطبيعية للمعتقلات، فالسيارة المخصصة لجلب المعتقلين تمارس عملها دورياً دون كلل أو ملل. لكن المختلف هنا الصرخة الرائعة لأحمد سبع الليل من موقعه في برج الحراسة، حاملاً الناي بيده. فالإنسانية في النهاية ستنتصر على الجلاد وستقضي عليه. وهذا بالذات ما يحدث اليوم، فالجهل انكسر وانقلب السحر على الساحر، ولا من سبيل أمام الأنظمة العربية إلا أن تخضع لمطالب الشعب بالحرية والكرامة. ميدل ايست أونلاين