حادثتان في السياسة السودانية شدّتاني شداً للتعليق عليهما. في أحيان كثيرة تتقلب السياسة والمواقف بسرعة وتتابع لا يتيحان فرصة للتعليق. أبدأ بتصريح غاية في الخطورة أدلى به المتحدث باسم حركة العدل والمساواة، وهي كبرى حركات ثوار دارفور التي تخوض حرباً أهلية ضد قوات الحكومة السودانية والميليشيات التابعة لها، لموقع «نيو ميديا نايل» الإلكتروني، وهذا نص الخبر: «أعلنت حركة العدل والمساواة بزعامة دكتور خليل إبراهيم على لسان أحمد حسين آدم، الناطق الرسمي باسم الحركة ل «نيو ميديا نايل»، عن مطالبة حركته بحق تقرير المصير لكل من دارفور وكردفان. وعند سؤاله حول سر هذا التحول المفاجئ فى موقف حركته، نفي آدم أن يكون هذا القرار وليد اللحظة»، وأضاف: «هذا القرار ليس وليد اللحظة، بل هو وليد مشاورات، وحوارات، واتصالات على مدار السنوات السبع الماضية، توصلنا عبرها إلى أنه فى غياب دولة المواطنة، وكبت الحريات، ولعدم جدية النظام فى الوصول لحل سلمي متفاوض عليه لأزمة دارفور، التي هى أزمة السودان، ودخول النظام للمرحلة الثانية من الإبادة الجماعية فى معسكرات النازحين، فنحن نطالب بحق تقرير المصير لدارفور وكردفان». وقال آدم: «إن حق تقرير المصير حق أصيل فى القانون الدولي». وتابع: «في الماضي كان هذا الحق مكفولاً للدول المُستعمَرَة، لكن الآن وبحسب القانون الدولي فهو حق مكفول لأي جماعة داخل الوطن الواحد». هذا ما ظللت أحذر من أن تصبح وحدة السودان كله، وليس شطره الجنوبي فحسب، هي ثمن الحماقات التي تتسم بها سياسات الحكومة السودانية، وقلت مراراً في هذا المكان إن عدم المرونة، والتمادي في الغرور والاستهتار بالآخر، والتأرجح على بوصلة مجريات السياسة الدولية، وشراء الوقت، وتنفيذ بنود برنامج الحزب العقائدي المتطرف، ستنتهي بأن ينادي الثوار في عدد من جهات السودان بحق تقرير المصير، لأنه لم يعد ممكناً تعايش أي فئة سودانية مع حزب الجبهة الإسلامية القومية، الذي يحكم البلاد بقبضة حديدية، تحت دثار «المؤتمر الوطني»، منذ 20 عاماً، ولم يبق سوى خيار الانفصال. فأما الانفصال فقد بدأ بجنوب السودان، وستكتمل فصوله بإعلان نتيجة استفتاء شعب جنوب السودان في كانون الثاني (يناير) 2011. وكان ممكناً أن تقبل به غالبية جماعات البلاد، بحكم أن الساسة الشماليين الذين يقودون المعارضة الراهنة لنظام الجبهة الإسلامية القومية (الصادق المهدي ومحمد عثمان الميرغني وغيرهما)، هم الذين تعاهدوا في عام 1995، بمنح الجنوب حقه في تقرير مصيره، لو أن الأمر سيتوقف في المحطة الجنوبية. وكانت الخشية أن يؤثر ثوار دارفور حلاً مماثلاً. ولن يلبث ثوار الشرق أن يطالبوا بحكم ذاتي موسع. ولم يكن مفاجئاً بالنسبة لي أن يجر ثوار دارفور منطقة كردفان إلى المصير نفسه، فقد ظلت تلك الولاية المجاورة لدارفور تغلي منذ سنوات عدة، وشهدت حوادث وهجمات تمرد عدة، وإذا تدحرجت كرة حق تقرير المصير، فهي لن تتوقف. فما بدأه الجنوبيون حلماً في عام 1955 (اندلاع الحرب الأهلية الأولى)، لم يتحقق حتى العام 1995، يوم تم التوصل إلى اتفاق السلام بين حكومة الجبهة الإسلامية القومية وثوار الجنوب السابقين. لعبة تقرير المصير تتولى حسمها عادة القوى الكبرى، وتأتي الأممالمتحدة في خاتمة الأمر لإخراج الوليد الجديد إلى حيز الوجود. ما أشقى جيلنا، ذاك الذي ولد مع مولد الدولة السودانية المستقلة في عام 1956، ها نحن نشهد تفتت ما بناه أجدادنا وآباؤنا وأمهاتنا، بل ستعود بنا عجلة التاريخ القهقرى لنعيش عهد تمزق السودان إلى دويلات وسلطنات، تماماً مثلما كان الأمر حتى مطلع القرن ال 20، وهي مسؤولية وطنية ودولية جسيمة يتحمل وزرها أقطاب الجبهة الإسلامية في الحكم والظل. أما الحادثة الأخرى، فسنتابع فصولها معاً لتعرفوا ويعرف المجتمع الدولي بأكمله كيف تتصرف حكومة الخرطوم؟ فقد تلقت السلطات رسالة من الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) تنبئها بأنه لا يعترف بنتيجة انتخابات الاتحاد السوداني العام لكرة القدم، التي أجريت على أساس قانون تخالف إحدى مواده أحكام «الفيفا»، وهي حادثة لا تخلو من سوابق مماثلة، إذ وُجّه الإنذار نفسه إلى الكويت والعراق، وترتبت عليه عقوبات، بسبب ما يعتبره «الفيفا» مساساً بأهلية الرياضة، لجهة تدخل الإدارة الحكومية في تحديد معايير الانتخاب والترشيح وأهلية المرشحين، وأمهل الاتحاد الدولي الخرطوم أسبوعين لإعادة إجراء الانتخابات وفقاً للمعايير الدولية، وإلا فإن السودان سيواجه عقوبة تجميد عضويته، وحرمان أنديته وفريقه الوطني من المشاركة في المنافسات الإقليمية والدولية. جاء رد وزير الرياضة السوداني حاج ماجد سوار متشنجاً ومتغطرساً، إذ أكد أن القانون الملزم لبلاده هو قانونها، وهو لن يعدل إلا بإرادتها، وهي لن تخضع بأي حال لإرادة «الفيفا»، وهي «عنترية» عهدت في رجالات الحزب الإسلامي الحاكم، لكنها ليست في محلها، وكادت مهلة «الفيفا» تنقضي، وسنتابع كيف سيلحق هذا الحزب الإسلامي هزيمة نكراء ب «الفيفا»، مثلما ضايق أميركا حتى دنا عذابها - على قول أهزوجتهم الذائعة، أم تراه ينحني بوجه العاصفة، مثلما انبطح بعد الغارة على مصنع الشفا، وزاد شدة الانحناء بعد غزو العراق، وتقليم أظافر تنظيم «القاعدة» الذي وفرت الحكومة السودانية ملاذاً لزعيمه أسامة بن لادن، ومزارع لتدريب عناصره، وأحياء للجماعات المنضوية تحت لواء التنظيم والمؤيدة له... إن غداً لناظره قريب! معاوية يس *