في المهاجر وبلاد الاغتراب أصوات جهيرة وعقول نيرة تفند مشكلات الوطن وتحلل قضاياه وتجترح الحلول، لكن حديثها ظل كرجع الصدى، والسبب اتساع الفجوة بين المغتربين ومؤسسات الدولة .. من ينكر أن تقدم الأوطان يحتاج بشدة إلى مثل تلك الأفكار التي تعتبر بحسابات العالم الأول سلعة باهظة الثمن ..! حوارنا مع الدكتور (إبراهيم صالح عباس) استشاري الجراحة ومناظير الجهاز الهضمي بجدة .. حول علاقة الوطن بالمغترب وإشكالات الاستثمار الطبي في السودان .. - الحديث عن تأثير انقسام السودان على استقراره السياسي والتشاؤم بشأن مستقبله الاقتصادي هل هو خوف مبرر، أم هي أوهام النخبة المغتربة ..؟! تاريخ السودان الحديث فيه جوانب أثبتت نجاح الشعب السوداني في العملية السياسية التي قام بها منذ الاستقلال، صحيح أن مشروع التنمية فشل، وأن البناء تعثر لكن لا نحمل الشعب مسئولية الفشل و الانفصال بقدر ما نحمل تيار أو تيارين فرطوا في سلسلة إجراءات قانونية غير مدروسة ..... ثم جاءت وفاة جون قرنق وهي بداية السيناريو الأسوأ في قضية الجنوب، ولو كان الرجل حياً لتغيرت النتائج .. الشعب لا يفشل في قضيته لكن النخب هي الملامة لأنها هي التي يقع عليها العبء الأكبر .. و حتى الان ليس هناك خارطة طريق تبشر بإسكات اصوات البنادق التي عادت تهدد المستقبل . هنالك رأي شائع يقول إن العشوائية لعنة عامة تعاني منها الشخصية السودانية بدليل أن الطبيب المغترب يرتد عشوائياً حال رجوعه إلى الوطن ..؟! من أدواء الشخصية السودانية أنها لا تقر بمعظم عيوبها، و الحقيقة ان الحركة الثقافية و الفكرية كلها لا تتعرض للشخصية السودانية بأي تحليل او نقد و تاريخيا قلة فقط , منهم الشيخ بابكر بدرى , هم الذين تصدوا لهذه المهمة العسيرة . التقليد و العشوائية عندنا مشكلة ، و الأطباء القادمين من الخارج عندما عادوا إلى ممارسة الطب محلياً يتأثروا بما و رثوا و ما يواجهون .. فهم جزء من هذا المجتمع ..... و لكن الأغلبية يتصفون بالمنهجية و العلمية و يسعون للتطوير و التحديث ضمن الادراك الذى يؤكد ان الصحة مفهوم شامل لحياة المجتمعات بكاملها , الا قله منهم. هل تعتقد أن التشريعات والقوانين الصارمة في الخارج لها دور في تقنين الممارسات الخاطئة للطبيب السوداني مقارنة بسلوكه المهني داخل الوطن ، حيث تتقلص مساحة بعض التشريعات وتضيق أوعية بعض القوانين ..؟! لا أعتقد أن الخوف من المساءلة هو السبب الرئيس، لكن – في تقديري – أن العامل الأساسي الذي يحدد موقع الطبيب من معسكر ضبط الجودة هو نوع التدريب الذي حصل عليه، لأن إعادة صياغة شخصية الطبيب تتم في أثناء التدريب الطبي الذي يختلف تماماً عن باقي المهن الأخرى، كونه لا يستوعب أي طبيب! .. فمن الممكن جداً أن يتقدم طبيب للتدريب في تخصص معين ويتم استبعاده , لأسباب تتعلق بمقوماته الشخصية، مثل عدم المقدرة على اتخاذ القرار وضعف المهارات السلوكية إلخ .. وبعد حصول الطبيب على مثل هذا التدريب الطبي المتكامل سوف يعمل بنفس مستوى الجودة ولو كان ذلك في جزيرة معزولة ..! هل يمكن الجزم بأن غياب التدريب هو سبب مشاكل الطب في السودان ..؟! من مشكلات ممارسة الطب الكبرى في السودان وجود كليات طب كثيرة وخريجين بدون مدربين في المستوى السريري وفوق السريري .. على العكس مما كان سائداً عندما كان طالب الطب في الجامعات السودانية يرافق الطبيب المختص يوميا و لمدة أربع سنوات كاملة، من الساعة العاشرة صباحاً وحتى الثانية ظهراً .. بينما اليوم يتنقل أستاذ الطب من جامعة لأخرى دون أن يكتسب الطلبة التدريب الكافي ..! و في المستوى السريري اصبح الوضع اسوأ , بعد ان كنا روادا بشهادة جامعات و كليات ملكية عالمية . انا شخصيا (و أفراد دفعتي) بدأت رحلتي التخصصية في السودان في جامعة الخرطوم و وزارة الصحة التي كانت تعمل في تناسق مع مؤسسات اخرى مثل السلاح الطبي و جامعة الجزيرة وبفضل اساتذة كبار مثل محمد يوسف سكر و زاكي الدين و عمر بليل و على كمبال و سليمان صالح فضيل و غيرهم ممن لهم كل الفضل و لا يتسع المجال لذكرهم .. الذين كانوا حريصين على التطوير بقدر حرصهم على رصانة العملية التدريبية و صرامتها , وقد عملنا في عدة دول بكفاءة و الحمد لله دون مواجهة أي صعوبات . ما رأيك في الجدل الذي أثير في السودان مؤخراً حول عدم أخلاقية امتناع الطبيب المضرب عن العمل عن إسعاف المريض ..؟! هذا الموضوع قتلته نقابة الأطباء بحثاً، وهي إحدى إشكالات انعدام الديمقراطية عندما ينقطع تواصل الأجيال فتثار مسائل محسومة منذ زمن ! الطبيب المضرب عن العمل بسبب تدني الأجر من المفترض أن يسعف حياة المريض ولكن إسعاف المريض في حال تدنى او انعدام او غلاء سعر الدواء او الفحص المعملي او الإشعاعي غير ممكن وبالتالي لن تكتمل رحلة العلاج ..! ونفقد المريض . فإهمال حقوق الاطباء هو جزء من اهمال العملية العلاجية كلها. فالطبيب المظلوم المهموم لا يستطيع انقاذ المريض. لذلك ابراز القضية بهذا الشكل القصد منه احراج الاطباء و افشال سعيهم و ليس الدفاع عن المريض. فالاستمرار في العمل هو سلوك شكلاني أقرب إلى الغش منه إلى المساعدة، لأن الخدمات العلاجية الأخرى – ببساطة – غير موجودة. مفهوم اقتسام السلطة والثروة بالسودان ..؟! نحن المغتربون تركنا بلادنا دولة واحدة والآن أصبح دولتين وحتى لو عاد موحداً اجزم ان هناك رأيا عاما داخل و خارج الوطن في الحكم الاتحادي اللامركزي أو مفهوم السلطة والثروة السائد الآن ، لكي ننجح لا بد من بناء نظام دولة بسيط وقوي توزع عبره الثروة على المواطن في شكل خدمات وتضمن جهات رقابية تنفيذ ذلك في شكل تعليم وصحة و مرافق دولة و مشاريع زراعية و سكنية. لكن مفهوم (سلطة وثروة) بمعنى أن يكون الحاكم من أبناء الإقليم او يتم تعيينه ممثلا لحركة عارضت الحكومة ثم وقعت اتفاقية هي اقرب الى الصفقة منها الى اتفاقية سلام. فهذا تشويه لمفهوم توزيع السلطة والثروة لأنه لا يعني إنصاف المنطقة .. بتوجيه جزء من الدخل القومي لها في شكل تنمية و خدمات حسب تعداد سكان كل منطقه و احتياجاتها في سلم العوز الاقتصادي و الاجتماعي الذى يفاقمه نصيبها من الحرب و الفساد. و هذه الحقيقة مزمنة في تاريخ الدولة السودانية الحديثة و تفاقمت اخيرا . نحن المغتربون خائفون من فكرة تفتيت السودان بهذه الطريقة ومن خلال هذه المفاهيم لأنها تزيد من النعرات القبلية و الاقليمية و تلغى مشروع الدولة السودانية . ماذا عن علاقة الدولة بالمغترب .. ؟! .. القيمة الأساسية للمغترب في معظم دول العالم أنه مصدر لعملة صعبة ترد إلى الدولة في شكل مدخرات ( بالإضافة الى الخبرة العملية و الانسانية الناتجة من معايشته لشعوب اخرى) ، بينما في السودان وبسبب غياب السياسات البنكية الراشدة فإن المغتربين لا يقومون بتحويل مدخراتهم إلا للمناسبات الاجتماعية أو لشراء عقار أو عربة .. خروج المواطن السوداني يعني بالنسبة للدولة السودانية موته اقتصاديا، لأنها لا تستطيع أن تستفيد من المغترب إلا إذا نجحت في إقناعه بدخول مدخراته إلى البلاد.. انا لست اقتصاديا و لكن المشكلة في النظام البنكي , لذلك تجد أن المغترب السوداني يحتفظ بمدخراته في بنوك الخارج بينما يقوم نظيره الآسيوي بتحويل شيك راتبه إلى بنوك بلاده فور استلامه.. او يقوم أي السوداني بشراء ما لا يحتاج اليه على اساس أنه ملاذ آمن لشقاء عمره مثل قطع الأراضي و هذا يحرم البنوك من العملة الصعبة ... و يفاقم ازمة السكن و يقلل حركة الاقتصاد . هنالك أيضاً حكاية السوق الموازي أو تجار العملة .. و منافسته للنظام البنكي الرسمي فكل طرف يحاول جذب مدخرات المغترب , لا توجد في السودان حماية بنكية واستقرار وثبات للصيرفة .. القطاع الاقتصادي كان يمكن له أن يستفيد من المغترب أضعافاً بذكاء أكبر .. المعجزة الالمانية بعد الحرب العالمية الثانية بدأت بالادخار و هى الان اكبر اقتصاد في اوربا و زعيمة الاتحاد الاوربى الاقتصادية . لذلك يعيش مغترب الدول الأخرى في بلاد الناس لفترة ثم يعود إلى وطنه، أما المغترب السوداني فيستوطن في المهاجر لعدم وجود سياسة اقتصادية مدروسة ..!