بقلم/ السفير أحمد عبد الوهاب جبارة الله: تظل العلاقات السودانية الأمريكية، في قمة المشاغل والاهتمامات لدارسي السياسة الخارجية السودانية، بحكم أن في مسار هذه العلاقات، الكثير ما يهدد مستقبل الأوضاع في السودان ويؤثر عليها سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا. وحتى لا نذهب مذهب الهواة والمتحمسين سياسيًا أو المشحونين عاطفيًا، لا بد أن نؤكد على حقيقة هامة وهي أن طرفي هذه العلاقة تفصل بينهما هوة سحيقة في ميزان القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية والإستراتيجية. وبالتالى فأحدهما (السودان) لا يجد في موقفه عناصر تسمح له بالمناورة والمراوغة، بينما الآخر( الولاياتالمتحدة) يملك الكثير من العناصر التي تمكنه من المناورة والضغط وطول النفس، بحسب ما هو مأمول في أهداف سياسته الخارجية تجاه السودان. ويحضرني هنا ما ظل يردده بعض كبار المسؤولين في السودان من عبارات تحاول التقليل من خطر التدهور المريع في العلاقات السودانية الأمريكية، منذ تولي حكومة الإنقاذ السلطة، وهو تدهور بلغ مداه أو كاد أن يبلغ مداه في الأسابيع الأخيرة. ومن خلال دراستي ومتابعتي لهذه العلاقات لأكثر من ثلاثين عامًا، أستطيع القول إن التردي في هذه العلاقات قد وصل الآن محطة تثير القلق وتدق النواقيس وتستوجب أن يأخذها المرء مأخذ الجد . وهناك علامات ومؤشرات لا بد من الوقوف عندها. أولاً: تجري مداولات بين أعضاء في الكونغرس الأمريكي حاليًا، حول فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية على السودان، وذلك في إطار المبادرة التي يقوم بها عضو مجلس النواب الأمريكي فرانك وولف وآخرون. ولفائدة القارئ، فإن النائب فرانك وولف أخذ شهرة بأنه مهتم بشؤون السودان، وقد سبق له أن زار السودان ست مرات، وكان هو أول أعضاء الكونغرس الذين زاروا دارفور في يوليو من عام 2004. وكما نعلم فإن العقوبات الأمريكية ضد السودان بدأت منذ نوفمبر 1997، في عهد الرئيس بيل كلينتون، وبنيت على " رعاية حكومة السودان للإرهاب، وزعزعة استقرار النظم في دول الجوار، والخرق المستمر لحقوق الإنسان في حق مواطنيها". وظلت هذه العقوبات سارية في عهد الرئيس جورج بوش الابن، ثم جاء الرئيس أوباما وجددها في نوفمبر الماضي، مسببًا ذلك استمرار الأزمة في دارفور . والخطير أن العبارات التي استخدمتها إدارة أوباما في تبرير التمديد، حملت نذرًا مقلقة، لأنها وصفت تصرفات الحكومة السودانية في دارفور بأنها " معادية لمصالح الولاياتالمتحدة وتشكل تهديدًا استثنائيًا وغير عادي للمصالح القومية الأمريكية وللسياسة الخارجية الأمريكية." وفوق ذلك يأتي فرانك وولف وبعض زملائه ساعين لفرض المزيد من العقوبات على السودان، وهم يبررون ذلك بتدهور الأوضاع في جنوب كردفان والنيل الأزرق . والمحصلة من كل ذلك أننا نتجه إلى عقوبات أمريكية أكثر قسوة، ويظل اقتصادنا ضحية لحصار المؤسسات المالية والاقتصادية الأمريكية والغربية، بل ومؤسسات وحكومات في المنطقة العربية. وكل ذلك مرتبط بالسطوة الأمريكية الهائلة على الاقتصاد العالمى وتحكمها الكبير في مداخله ومخارجه، برغم ما يتمناه الكثير من أصحاب نظريات المارد الصيني، والنمر الماليزي، والأسد الفلاني. وكل أولئك لا يستطيعون، على الأقل في العشرين عامًا القادمة، مواجهة السطوة الإستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة، اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا. وهذا حديث لا شأن له بما نحبه أو بما نرضاه، ولكنه حديث ذو شأن بواقع الحال وحقائق الأمور على الساحة الدولية. والحكومات الذكية الواقعية التي تهتم بمصالح شعوبها، لا بد لها أن تدرك هذه الحقائق، وتكف عن العنتريات والخيالات ومحاربة طواحين الهواء، بينما هي تضيع الفرص واحدة تلو الأخرى، ولا تحصد شعوبها سوى الضنك والمعاناة والتأزم. ولهذا فيبدو أن الحديث الذي تمناه البعض هنا حول رفع حكومة السودان من قائمة الحكومات الداعمة للإرهاب، وإلغاء ديون السودان، كله حديث من قبيل التمني . فالعناصر المتصادمة في العلاقة بين الخرطوم وواشنطن لم يحدث فيها تغيير يذكر يؤدي لمثل هذه الإجراءات. وجماعات الضغط المعادية لحكومة السودان في الولاياتالمتحدة، تزداد شراسة في هجومها، خاصة أن مسألة أخذ مواقف متشددة تجاه حكومة السودان قد دخلت في حيز المسائل المرتبطة بقضايا الانتخابات هناك. ثانيًا: قامت الولاياتالمتحدة بنشاط دبلوماسي ملحوظ للحيلولة دون انعقاد مؤتمر استانبول الخاص بالتنمية في السودان، الذي كان مقررًا له أن ينعقد في الثالث والعشرين من مارس الجاري. وفي تقديري أن ذلك الفعل الأمريكي، كان بمثابة رسالة قوية، لا تخطئها عين، بأن الولاياتالمتحدة ليس لديها تفكير في الوقت الراهن لترتيب مقاربة مع حكومة السودان. وحتى بعد الوعود التي بذلت بعد اتفاقية السلام الشامل (عام 2005)، وذهبت سرابًا، فواضح أن الولاياتالمتحدة، آثرت أن تستثني جمهورية جنوب السودان من العقوبات، وهو التعديل الوحيد الذي طرأ على قانون العقوبات وقراراتها، لتظل جمهورية السودان في قفص العقوبات وعلى قائمة الحكومات التي ترعى الإرهاب. ومما يؤسف له أن الكثيرين من المسؤولين عندنا كانوا يتحدثون عن مؤتمر إستانبول، بمعزل عن وتيرة العلاقات السودانية الأمريكية، وحاولوا، لا ندري إن كان ذلك من قبيل التمني أو غير ذلك من آفات القصور في الإدراك، حاولوا تصوير ذلك المؤتمر وكأنه في منأى عن عواصف التوترات في علاقات البلدين، وكأنه شأن يتعلق بكوكب خارج المجموعة الشمسية، ولا شأن للخرطوم وواشنطن بأمر انعقاده. كذلك نقلت بعض الصحف أن هناك اتجاهًا لعقد المؤتمر دون مشاركة أمريكية. ولعمري فإن في ذلك شططًا ومجافاة لوقائع السياسة الدولية. وعلينا أن نفهم بأن كلاً من تركيا وبريطانيا والنرويج لن تأتي بفعل مثل هذا، بما ينطوي عليه من عواقب التوتر في علاقاتها بواشنطن ،وفي وزارات خارجيات تلك الدول من يفهمون جيدًا معنى المصالح القومية والإستراتيجية لبلادهم. ويقيني أن الدرس من مؤتمر إستانبول، هو مجسد في عنوان هذا المقال. فالحكومة الأمريكية لم يعد في مخزون سياستها الخارجية جزرات لحكومة السودان ولم يبقَ لها إلا هراوات وعصي.!! وعلينا أن نتعظ بدروس من التاريخ البعيد والقريب، بأن مثل هذه الأوضاع قد يكون فيها تكاليف باهظة للطرف الذي تنقصه إمكانيات الاستمرار في الاحتكاك بطرف آخر يملك هذه الإمكانيات. والرأي عندي وعند الكثير من الدارسين لنظم العقوبات والمقاطعة الدولية، أن الخاسر الأول والأخير من هذه الممارسات، ليسوا هم حكام الدول التي تخضع لتلك العقوبات، فهؤلاء لهم من السبل ما يدبرونه للهروب من وطأة تلك الإجراءات، ولكن تصبح حياة الشعوب قاسية وعيشها شظفًا وحرمانًا. وقد حدث ذلك في يوغسلافيا السابقة، وحدث في العراق وزمبابوي وميانمار وحتى في ليبيا أيام معمر القذافي والتي انعزلت عن العالم برغم ما تملكه من ثروات نفطية هائلة!!! ثالثًا: لا تقتصر الأزمة بين الخرطوم وواشنطن عليهما فقط، ولكن لها أيضًا تفاعلات وتقاطعات مع ما يجري في مجلس الأمن الدولي في إطار الأممالمتحدة. وكلنا يعلم أن سائر القرارات وبيانات الرئاسة الصادرة عن مجلس الأمن بخصوص السودان، كانت وستظل بمبادرات من الحكومة الأمريكية، سواء كان ذلك مباشرة أو بطريقة غير مباشرة. فالأممالمتحدة لديها يدها الطولى في تشكيلة قوات اليوناميد في دار فور ،وهي قوة كبيرة وهامة بكل المقاييس. وعليه ستظل الولاياتالمتحدة حريصة على تجديد ولاية تلك القوات ووجودها في إطار مجلس الأمن، لأن في ذلك صلة عضوية بمبررات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه السودان. ليس هذا وحده، بل تأتي فوق ذلك مسألة التوتر المتزايد في العلاقات بين جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان. ولنفكر، أكثر من مرة، فيما صدر من تصريح عن الأمين العام للأمم المتحدة مؤخرًا، عندما قال: "أصبح الوضع خطيرًا للغاية بين السودان وجنوب السودان" وتحدث عن "انهيار الثقة بين جنوب السودان والسودان بما يعوق تقديم المساعدات الإنسانية للفارين من الصراع " وأضاف أن البيانات العدائية الصادرة عن الطرفين، تزيد من احتمالات المواجهة العسكرية بينهما !! ومدعاة التأمل في هذا الكلام، ترتبط بسؤال نطرحه وستجيب عنه الأيام القادمة، وهو: هل هناك قرارات آتية من مجلس الأمن تتعلق بالوضع بين دولتي جنوب السودان وشمال السودان ؟ ومثل هذه القرارات، هل ستكون فيها إجراءات للمزيد من قوات حفظ السلام، والمزيد من الوقوع في حبائل الفصل السابع لميثاق الأممالمتحدة ومحاذيره ؟ ليس لدينا ما نستند إليه في استشفاف الإجابة عن هذا السؤال، وسنرى ما ستسفر عنه الأيام ولكن دون طويل انتظار أو كثير عناء. غير أن المهم في كل ذلك أن أيادي أصحاب الهراوات تظل ممدودة في خلفية مجلس الأمن، وبغض النظر عن تصنيف غيرهم لما يفعلون في مبنى الأممالمتحدة الذي يطل على نهر "الإيست ريفر" في نيويورك. يبقى بعد ذلك أن أثير نقطتين لهما أهمية قصوى في حسابات العلاقات السودانية الأمريكية. إحداهما تتعلق بالخلط المستمر عند ساستنا وحتى عند المنوط بهم أمر السياسة الخارجية السودانية، بين الإدارة الأمريكية وبين الكونغرس الأمريكي. وقد أذهلني خبر تناقلته وسائل الإعلام السودانية يتحدث عن احتجاج دبلوماسي سوداني لدى الحكومة الأمريكية بخصوص تحركات ومبررات النائب فرانك وولف لتشديد العقوبات المفروضة على السودان. فالنظام الأمريكي فيه تميز بين السلطة التشريعية(الكونغرس) والسلطة التنفيذية (الإدارة) وتظل الأولى هي سلطة التشريع والرقابة، ولا يمكن للسلطة التنفيذية أن تسيرها كما تشاء، كما هو الحال عندنا في السودان وفي كثير من بلدان المنطقة. والأجدر بكل من يرى في الكونغرس ما يقلقه أن يتعامل مع تلك المؤسسة، وليس مع غيرها. وإن هو فشل في التعامل معها لأسباب تتعلق بخلاف جذري حول السياسات، كما هو الحال بين السودان والولاياتالمتحدة، فإن اللجوء لغيرها لن يجدي فتيلاً ولن يفيد. أما النقطة الأخيرة، فهي تتعلق بما ظلت تردده الكثير من وسائط الإعلام حول إنكار الإدارة الأمريكية بأنها تسعى لتغيير نظام الحكم في السودان. ومن ذلك ما صرح به بعض المسؤولين الأمريكيين، في الآونة الأخيرة. ويبدو أن تلك التصريحات قد شجعت بعض حكامنا على الإصرار المستمر على طريقة في الحكم أثبتت فشلها الذريع بعد تجارب مريرة خاضها السودان خلال العشرين عامًا الماضية. ولكن ما بات يراه المرء من شواهد واستقراءات تتصل بالتصرفات الأمريكية في الآونة الأخيرة، لا يؤيد فرضية ذلك الطرح الناكر للسعي لتغيير النظام في السودان. ومن تراكمات التجارب والخبرات الدولية، فإن هذه الشواهد تشكل مقدمات لنتائج منطقية، حتى وإن نفتها التصريحات بين الحين والآخر. ولعلي أخلص من كل هذا، أنه يجب علينا في السودان أن نغير سياساتنا وممارساتنا ليس لإرضاء الولاياتالمتحدة ولكن لإرضاء شعب السودان، وهو صاحب السيادة على هذه الأرض، وهو الأحق بحكم عصري ومدني وديمقراطي، يعتد بحقوق المواطنة وينأى عن الخطل العنصري والإثني، ويعمل على تمكين كل الشعب من موارده، وينبذ الفساد المالي والإداري الذي أثقل كاهله وظل يهدده بالمزيد من التمزق والشتات والضياع.