'كثيرة هي ذكرياتي كأني عشت ألف عام...' بودلير طموح الرجال يتسع لحجم الأمم الحقيقي، مهما كان تواضع الإمكانيات، ومحدودية وسائل الإتصال، وضحالة مقررات التاريخ والجغرافيا في الأنظمة التربوية لعالمنا العربي! كذلك وفاء النخب 'المحظوظة' لمن ارتهنهم واقع التخلف وسطوة الجهل، والتمسك الوثني بعزلة لم تعد مقبولة في عصرنا. امتلأ قلبي بحب الراحل الطيب صالح، عندما قرأت له: (سنهدم وسنبني وسنخضع الشمس ذاتها لإرادتنا وسنهزم الفقر بأي وسيلة). في بحر رائعته 'موسم الهجرة إلى الشمال'.. كانت بجمالية سردها، وعذوبة مواقف صاحبها مرجعيتي لمعاقرة منفاي الشمالي، عقودا بعد قراءاتي المتكررة 'لجواز سفر جيلي' الذي مكنه من العبور بأمان إلى عالم الشموع والدموع والصقيع.. دون فقدان حرارة أديمنا الأول! كنت كلما تحدثت عن الطيب صالح، فاجأتني ذاكرتي باحتضان جواهر 'هجرته'، بنفس المتعة التي اقتفت بها عجزا شاردا لذي الرمة، أو صورة عبث 'ابيكال' من إبداع 'سيلين' في رائعته 'رحلة في عمق الليل'. وفق الطيب صالح في ضخ حياة جميلة بجسر عاطفي مصقول، ربط منذ قرون باديتنا وأهل السودان.. لقد كان أول مثقف عربي معاصر يكتب في مجلة 'العربي' عن أكبر قلاع المقاومة الثقافية في العالم العربي.. عندما نقل صورة حية مطلع التسعينيات من القرن الماضي عن الحياة الثقافية 'لمعهد أبي تلميت' الذي خرج آلاف الأطر المعربين من جميع أنحاء موريتانيا، وحتى بعض دول غرب افريقيا.. في مقارعة لمدارس المستعمر، ليكسب رهان استقلال موريتانيا دولة عربية، خلافا لما كانت تخطط له مشاريع المستعمر وأطماع الجيران! كان الطيب شاهدا في تلك الفترة، على مجالس الطرب بالبادية الموريتانية، عندما نقل للقارئ العربي سمرا أندلسيا بديعا 'بالمذرذرة، أو ذات التساقط كما يسمونها...'، حيث 'غنت منينه بنت اعليه أبياتا لمجنون بني عامر'. فتن بأرضي التي منحته صداقة وحب أعز أبنائها: الشاعر والدبلوماسي الراحل عبدالله ولد أربيه، الذي فتح له كنوز موريتانيا على وقع أنغام شواردها، التي استقرت ملء جفونه القحطانية. لقد حظي عبدالله ولد أربيه، شامخا في 'دراعته' وتحت عمامته المهابة بتمثيل موريتانيا في مصر/جمال عبد الناصر.. وقلاع ثقافية ودبلوماسية لاتقل أهمية، لكنه لم ينس أبدا دوره 'كرسول' لبني بلده نحو العالم، وأن المتعة لاتكتمل مادامت صياغة 'الخرائط' تتطاول على هيبة ووقار الأمة التي أنجبت شاعرا ورعا ومؤمنا مبدعا من طرازه. كان أهل البلدة الطيبة، التي شهدت انطلاقته، يتناقلون باعتزاز دون وعي الأبعاد أن ولد أربيه، نقل تحياتهم لجمال عبد الناصر؛ وأنه لم يقصر! طفلا، تحملت دموعي جزءا من عبء ولد أربيه، الذي كان يهمني وصوله إلى بر الأمان: إلى إقناع العالم؛ بنا.. أمة، دحرت المستعمر بمنجنيق الضاد، وجابهت أطماع 'الشقيق' بالتي هي أحسن.. أمة صمم أبناؤها على أنهم ماضون، من أجل أن تكون! لم أقابل في حياتي الراحل عبد الله ولد أربيه، لكني له أحتضن في قلبي حبا لا يتوقف، ودعاء يلحق روحه الطاهرة كلما استحضرت مروره العابر، المثقل بمتعة الأدب ورزانة العقل، وامتلائه بحياة لا تنضب! في الأجواء الإماراتية، خلال رحلة عمل تساءل أحد أعضاء الوفد الموريتاني حديثي العهد بالفضاء لماذا لا يهتم الإخوة العرب بحضورنا؟ فأجابه الوزير المغربي السابق المكلف بحقوق الإنسان: 'لأنكم فقدتم أمثال عبدالله ولد أربيه...' وأضاف: 'هجرتم وقار المعرفة، وعبدتم الدينار'! صحيح أن 'صورتنا' بحاجة لعشرات من أمثال السفير/الشاعر، حتى يتقاعس 'عبدة الدينار' عن واجهة دنسها تجار القاصرات، ومهنيو التحايل على القروض المصرفية، وجمع صدقات مترفي البيترودولار! لقد أجلت حتميات التمثيل الدبلوماسي لموريتانيا الوليدة، تدوين الشاعر عبدالله ولد أربيه الذي امتلك إضافة إلى ناصية الثقافة العالمة، مفاتيح شاعرية لعالمنا الذي تعاطته خيام البداوة و أرصفة الحداثة ردحا من الزمن! لقد حفظ التاريخ له لأنه كان من صناعه دوره الريادي في إحكام دبلوماسية ثقافية، انتصرت للدور السياسي الذي لعبته الدولة الموريتانية على طريق 'الاعتراف' الدولي. آخر ما خاطبه به صديقه الطيب صالح يكفي لنعي حجم الرزء: 'كان بسيطا جدا ومتواضعا حتى في موته، لا يريد أن يشغل إلا حيزا صغيرا من الفراغ ولا يريد أن يسبب إلا أقل عناء للآخرين.' أنهكه المرض طوال الشهر الذي قضاه في غيبوبة في المستشفى، فضمر جسمه، وكان خفيفا جدا حين حملناه إلى مثواه الأبدي بين المغرب والعشاء، ولما وسدوه لحده نظرت إليه فإذا هو يشغل حيزا صغيرا من ذلك الفراغ العريض، تركناه مؤتنسا بربه في تلك الوحشة ان شاء الله. وقد ودعناه الوداع الذي ما بعده وداع، وكأنني سمعته يقول ضاحكا: يا أخي على ايه؟ ليه اتعبتو نفسكم؟ انصرفنا صامتين في العتمة بين النور والظلام، درويش الفار أطال الله عمره وأنا، يتوكأ علي وأتوكأ عليه. ونظرت إليه فإذا عيناه تذرفان، فقد كان صديقا محبا له. رحم الله عبد الله ولد أربيه، كان انسانا فريدا نسيج وحده بحق وحقيق. كان كذلك رحمه الله'. إن ذكرى عبدالله ولد أربيه تفرض نفسها على مختلف الأجيال العربية التي قرأت لرواد حداثة، اعترفوا له من بين أمور أخرى بإضافة شوارد الشعر الجاهلي إلى معاييرهم القيمية، وضوابطهم الإبداعية.. مع ذلك، يستحق شبابنا على الدولة الموريتانية ترسيم مروره الناعم في ذاكرتنا الجمعية، عبر نقش اسمه كاملا على أحد شوارع العاصمة، كفرمان وفاء لرجل سخر حياته المليئة بالإبداع، لتظل موريتانيا ذلك البرج العالي لإشعاع ثقافي تجاوز الحدود. ' كاتب وإعلامي من موريتانيا القدس العربي