من يتابع ما تتداوله وسائل الإعلام العربية والأجنبية ومواقع الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي خلال الفترة الأخيرة بإمكانه أن يلاحظ أن صورة تونس بدأت تهتز،... وإنه لخطر كبير لو كانوا يعلمون. تراجعت صورة تونس التي تقود الربيع العربي من خلال أول ثورة متحضرة، تونس التي حركت التاريخ العربي ليقطع مع نظام الاستبداد من أجل الحرية والكرامة، نعم تراجعت حتى أن عددا من وسائل الإعلام بدأت تتحدث عن خطر العنف السياسي الذي يهدد المجتمع التونسي المسالم وعن الاحتقان الإجتماعي والديني الذي ينفخ البعض فيه رغم أن المجتمع التونسي منسجم في مذهبه السني المالكي. أبعد من ذلك لم تتردد بعض المنظمات الحقوقية الإقليمية والدولية في التنديد بانتهاكات الحريات الفردية والعامة بعد أن كانت تلك المنظمات تساند الثورة التونسية وتروج لها في الخارج. وبعد أن كانت تونس تتصدر نشرات الأخبار في وسائل الإعلام العربية والأجنبية كبلد يرمز للحرية والديمقراطية أصبحت تتصدر نشرات الأخبار كرمز لاستفحال العنف السياسي والديني الذي بات يتهدد استقرار المجتمع. إن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أن تنامي سطوة السلفيين وما رافقها خلال الأحداث الأخيرة في عدد من الجهات بما فيها تونس العاصمة وعدد من الفضاءات الثقافية وكذلك في المساجد ألقت بضلالها على صورة تونس ونشرت حالة من الخوف لدى الفاعلين السياسيين ولدى المبدعين ولدى المواطنين العاديين. من يتابع تنامي سطوة السلفيين في ظل صمت مريب للحكومة يلاحظ أن البلاد تخطو نحو "دولة مؤمنين" في حين يطالب التونسيون بدولة مواطنين تتعايش في ظلها مختلف الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية. حين تهتز صورة تونس يهتز معها الموروث الحضاري كما تهتز معها عملية مسار الانتقال الديمقراطي بأكملها لتسري في المشهد السياسي الوطني حالة من التخوف بل حالة من التوجس حول مستقبل تونس الذي يتطلع المواطنون إلى أن يكون مستجيبا لتطلعاتهم ويحقق مطالبهم. وحين تهتز صورة تونس في الخارج فإن البلاد ستحرم بلا شك مما فتحته الثورة من آفاق وفي مقدمتها استقطاب السياح واستقطاب المؤسسات الاستثمارية التي تحتاجها تونس في مثل هذه المرحلة الدقيقة لتنشيط أداء الاقتصاد وتوفير آلاف مواطن الشغل للعاطلين. أما وقد أصبح المشهد الوطني مشحونا بالاستقطاب السياسي والاحتقان الاجتماعي والعنف الديني والتنافر المذهبي فإن الفاعلين السياسيين في الحكم وخارجه يتحملون مسؤولية وطنية تاريخية في وضع حد لظواهر مسقطة عن المجتمع التونسي إسقاطا خاصة وأنها تستبطن استعداء الحرية وتستهدف الحق في الاختلاف في إطار الثقافة السياسية المدنية الوطنية التي تبقى راية يستظل تحتها التونسيون مهما اختلفوا. إن اهتزاز صورة تونس في الخارج لم يكن نتيجة الاحتجاجات المشروعة على البطالة والحرمان من عائدات التنمية فتلك الاحتجاجات مظهر من مظاهر الحرية ولكنها اهتزت بعد أن تم تحويل وجهة الثورة من قبل السلفيين ليزجوا بالبلاد في متاهات عنف الثورة منه براء. لقد نحت المجتمع التونسي لنفسه عبر مختلف الأحقاب التاريخية صورة المجتمع المعتدل الذي لا يرى تناقضا بين الانخراط في مسار الحداثة الاجتماعية والسياسية وبين النهل من معين مقومات هويته العربية الإسلامية، منذ منتصف القرن التاسع عشر ناضل مصلحون ومفكرون وفقهاء متنورون من أجل نحت ملامح صورة معتدلة ومتسامحة للمجتمع التونسي. شهدت تونس سنة 1861 أول دستور بالمعنى الحديث يضمن حقوق المواطنين بقطع النظر عن معتقداتهم الدينية وينظم علاقة الدولة بالمجتمع وهو نفس الدستور الذي استلهم منه مؤسسو دولة الاستقلال دستور 1956 إثر استقلال البلاد عن الاستعمار الفرنسي. منذ الخمسينات من القرن الماضي بدت تونس بلدا يخوض تجربة حداثية متأصلة في عمقها الجغراسياسي، تجربة قدمت للعالم العربي والأجنبي أن التونسيين كانوا على امتداد الأحقاب التاريخية يساهمون في صناعة الحضارة والتاريخ بدءا من العهد الفينيقي وصولا إلى ثورة 14 جانفي مرورا بالحقبة الرومانية والفتوحات الإسلامية وحركة التحرر الوطني التي ترافقت مع نهضة إصلاحية تعد تجربة رائدة عربيا بشهادة المؤرخين. لكن، للأسف فقد أساء تنامي العنف السياسي وحالات الاحتقان الاجتماعي لصورة تونس، حتى أن العديد من المراقبين والخبراء حذروا من اهتزاز صورة البلاد لدى المستثمرين ولدى مراكز القرار. اليوم أمام الفاعلين السياسيين والاجتماعيين أن يعيدوا الصورة التي ناضلت من أجل رسمها أجيال من الوطنيين ولن يتسنى ذلك إلا بوضع حد للعنف السياسي الذي بات يهدد الحريات الفردية والعامة. هناك مسؤولية وطنية على القوى السياسية أن تتحملها بكل وعي وألا تتنصل منها تحت تأثير التجاذبات السياسية والفكرية والإيديولوجية، إنها مسؤولية نشر ثقافة مدنية تؤمن بحق الاختلاف والتعايش بدل ثقافة الكراهية ولضغينة. اليوم، أمام المتنفذين سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وكذلك مختلف القوى المكونة للمجتمع المدني من النشطاء والحقوقيين والإعلاميين فرصة تاريخية لا يمكن استنساخها، فرصة تمنحهم شرف النضال من أجل ألا تهتز صورة تونس تحت حالات النعرات القبلية والجهوية وتحت ضغط أصوات الجذب إلى الوراء وسطوة العنف الذي آن للحكومة أن تضع له حدا وأن تطبق القانون دون انتهاك لأي حق من حقوق التونسيين. ميدل ايست أونلاين