(أ) في الذّكرى الثَّالثَة والعشرين للانقَلاب العسْكَري ألقى الزّعيم خطاباً بالمنَاسَبَة بثَّته الإذاعات المرئيّة والمسموعَة وتناقَلَته شبكات التّواصل الاجتماعي قال فيه إنّ الدّول في حاجَة إلى الصَّرَامَة والسّجون والمشانق لتبقى دولا آمنة تَماماً مثلما تَحتاج الشّعوب إلى ولادات وميتَات لتصير شعوباً. وتَحدّث عن مُؤامَرَة ومأجورين وعُمَلاء وخيَانات. وأمر بإعادة صلْب الحلّاج وإعدام أبي نواس وابن رُشد وطرفة بن العبد وأبي القاسم الشّابّي وأحْمد فؤاد نَجم في السّاحات العامّة وتَحت أنظار الجميع ودفنهم في الصّحراء في قبر جَماعيّ مَجهول وختمه بألواح من الرّصاص. وأصدر حكمه بالأشغال الشّاقّة المؤبَّدَة على أبي الطيّب المتنبّي وأبي حيّان التّوحيدي ومُحمّد عبده وقَاسم أمين والطّاهر الحدّاد وعلي عبد الرّازق وعبد الرّحْمان الكواكبي وسَمْلِ عيْنيْ زرقَاء اليَمامَة. وقال بابتسَامة غطرسَة واحتقَار، غارِقاً في الثّقَة والكبريَاء، إنَّه كلّف فرقَة خاصّة لمقاوَمَة الإرهَاب بأن تَقْلِب الأرض والسَّماء بَحثاً عن عبد اللّه بن المُقَفَّع. وقَالَ إنَّ عبد اللّه بن المقفّع سيَدفَع فَادِحاً ثَمَنَ طُولِ لِسَانِه الذي جَاوَز كلّ الْحدود. (ب) فرّ عبد اللّه بن المُقفَّع من المدينَة متخفّياً في هيأة شَحَّاذ. مشى وهو يلتفت في كلّ الاتِّجاهَات ويَختبئ وراء شجرة أو لَافتة إعلانات أو نافورة حجريّة أو حائط كلَّما رأى شَخصاً مارّاً يُمكن أنْ يراه. مشى وقتاً طويلاً. مشى في الطّرق الْملتوية، بيْن النّتوءات الصَّخريّة، وفوق التّلال. وقَطَعَ الأنْهار والأودية. وعَبَر الدّروب السريّة، غيْر الْمطروقة، تائهاً بيْن الصّخور وكثبَان الرّمَال والحشَائش. وبعد سَاعَات طويلَة من المشي خارت قواه. هدَّه التَّعب فنام في أحد الكهوف المَهجورَة مثْل ميّت. (ج) كان الفَجْر قد بدأ يتسلّل إلى الكهف عندما فتح ابن المقفّع عيْنيْه. أحسّ بالجوع والعطش يَعصران معدَتَه كأنَّه لَم يأكل منذ آلاف الأَعوام. كان شاحباً وواهناً. وكان جَسَده أضْعَف من أنْ يَقوى على مُغَادرَة الكَهف. ولَكنَّه لَم يَكن قَادراً أيضاً على تَحَمّل نَهَشَات الجوع الضَّاريَة. فنَزل من الكهف متنكّراً. وتوجّه إلى المدينَة بِخطوات متعثّرَة من الوهن والإعياء. (د) مَشى عبد اللّه بن المُقفَّع في شوارع وأزقّة مزدانَة بالأَعْلام والشّرائط. كان النَّاس يَحملون الأعلام وصوَر الزَّعيم ويتدافعون بالأكتاف ويهتفون بأصوات مرتَفعة بِحيَاة صانع التّغيير. وكانت الموسيقى العسكريّة والأَغاني والأناشيد الوطنيّة تَملأ الدّنيا بأصواتِها وتئزّ في دويّها المتَّصل حتّى آخر طاقَتِهَا أزيزاً متراوح النَّغْمَة، هَادِر الصَّدى، يُعطي المكان جوّاً مُريباً جدّاً. لَاحظ ابن المُقَفّع أنّ الشّوارع والأزقّة والبِطاح والسَّاحات التي ألِفَها ومَشى فيها طوال حياته قَدْ تغيَّرت فَجأة، كأنَّه ما عَرفَها من قبْل ولا حتّى مَشَى فيهَا. وطَاف بذهنِه إنْ كانَ يتنقّل في جوّ غرائبيّ أشبه بأجواء رسومات سلفادور دالي أو حكايات فرانتس كافكا. ولولَا صور الزّعيم وتَماثيله المرئيّة في كلّ مكان لاقتنع بأنّه قُذِف فَجأة ودون تَحذير في زَمنٍ آخَر. (ه) توجّه ابن المقفَّع مُنهكاً إلى مَتجر صغير للمواد الغذائيّة يقع تَحت أشجار مورقَة في نِهاية شارع خَلْفيّ. كان البائع يُزيل الغبار عن صورة الزّعيم الموضوعة في أطار كبير. وكان يُغنّي وهو يتأرجح يَمنَة ويَسْرَة مثْل بندولٍ مَقْلُوبٍ. ظلّ ابن المقفّع يُحدّق في البائع لِلَحظَات وهو يَنتَظر. لَكنّ البائع لَم يعره انتباهاً كأنَّه لَا يَرَاه. قَالَ لَه إنَّه يَنتَظر. قَالَ لَه، وراح ينظر إلى مَا حوْلَه ويَتنَحنح. مسَح المَكان بعيْنيْه. وجَابت نظرَاته الصّحف والمَجلَّات المَعروضَة على الحامل الحديديّ. فَجْأَة، بدَا الانزعاج على وجه عبد اللّه بن المقَفَّع عنْدما قرأ، في لَحظة خَاطِفَة، بصوت مَخنوق من الذّعر والتّوتّر وعدَم التّصديق، مَا كُتِب في أسْفَل صورَة الزّعيم المنشورَة على الصّفحة الأولى لإحدى الجرائد بِخطٍّ فَخْمٍ طويل الحروف: 'يَسُرّ جريدتنا وهي تَحتفل بالذّكرى السنوّية للتّغيير أنْ تُهنِّئ الزّعيم الأَوْحد، صانع التّغيير، بالذّكرى الثَّلاثمائة للتّحوّل دَاعيَة المولى عزَّ وجلَّ أنْ يُعِيد هذه المنَاسَبَة المبَارَكة باليمن والخير والبَركَات. وكلّ عَام وأنتم بِألْف خيْر أيّها الزَّعيم المُفَدّى.' كاتب تونِسي القدس العربي