في الوقت الذي يكرس فيه نظام الانقاذ مشروعه السياسي من خلال تسريع وتيرة انجاز "دستور دائم" للسودان يحمل بصماته وملامحه، بعيداً عن مشاركة حقيقية من "الآخرين"، يطرح حزب الامة القومي برئاسة الامام الصادق المهدي مبادرة مثيرة للجدل يعتقد قادته أنها كفيلة بالانتقال بالبلاد الى مربع ثالث وفاقي يحقق التغيير المطلوب ويجنب السودان ويلات العنف والعنف المضاد، فيما يصف معارضون هذه المبادرة ب "الكلام الساكت" الذي لن يدفع النظام نحو التراجع عن عناده "قيد أنملة". منذ الانتخابات التي جرت في أبريل 2012، وما تمخض عن ذلك من انفصال للجنوب، وتأزم للأوضاع على الصعيدين السياسي والاقتصادي، يبدي المؤتمر الوطني الحاكم تشبثاً بإنفاذ برنامجه السياسي وعدم مبالاة للنداءات التي يوجهها سياسيون سودانيون بضرورة الالتفات الى جوهر الأزمة السودانية المتمثلة في الأحادية وسيطرة الحزب الواحد وضرورة استبدال ذلك ببرنامج قومي يجنب البلاد المزيد من الانقسام والتفتت. في المقابل الآخر يظل حزب الأمة من جانبه متشبثاً أيضاً ب"الأذان في مالطا" كما يقول مراقبون، ومتمسكاً بمبادرة وفاقية من جانب واحد، مبادرة تحسن الظن بالنظام ولا يعيرها المؤتمر الوطني أدنى اهتمام، والدليل على ذلك رفض الأخير للحكومة القومية المقترحة من قبل الحزب وتجمع المعارضة واصراره على حكومة عريضة على قاعدة رؤيته السياسية، وكذلك اصراره على اعتبار الدستور من خصوصياته السياسية التي لا يشاركه فيها أحد الا بالطريقة التي يراها مناسبة. أمام نخبة من قادة الرأي والمجتمع المدني بمدينة الرياض مساء يوم السبت 13 أكتوبر 2012، وبحضور بعض قيادات الحزب بالداخل وفي الخليج، طرح نائب رئيس حزب الأمة الفريق صديق اسماعيل مشروع الحزب ل"التغيير" ورؤيته ل"البديل"، مشدداً أن التغيير "أصبح حتمياً" في السودان برأي كافة القوى السياسية بما في ذلك حزب المؤتمر الوطني. ورأى اسماعيل أن السودان يعاني من حالة احتقان سياسي كبير يكاد يصل الى درجة الانسداد، وذلك نتيجة.. (لما قام به بعض الإخوة من أبناء الوطن الذين أجهضوا الديمقراطية وتعجلوا الأمور لخدمة وجهة نظر واحدة مع احتقار رأي الآخرين وتجاهل حقوقهم في المساهمة ما أدى الى هذا الاحتقان). ورغم صعوبة الوضع الحالي الا أن هناك أمل كما يقول في ايجاد مخرج ومتنفس ينقل البلاد الى مربع آخر يتم فيه التعامل مع الشأن الوطني على أساس المواطنة. وعزا الفريق صديق ما حدث للسودان من أزمات الى ما أسماه ب (سياسات احادية الاتجاه شمولية المقبض)، مشيراً الى أن المخرج الوحيد هو التغيير، لكنه استدرك قائلاً: (ومع ذلك فقد يكون هناك مغالاة لدى البعض في أمر التغيير الذي لم يعد هناك مناص من البحث عن سبل تحقيقه). تطرق الفريق صديق في حديثه الى انتخابات أبريل 2010، معتبراً مخرجاتها ومؤسساتها "أمراً واقعاً" تم التعامل معها من قبل حزب الأمة على الرغم عدم شرعيتها، منوهاً الى أن شرعية تلك المؤسسات نابعة من منطق القوة لا قوة المنطق.. ومضيفاً القول: (والآن نحن وهم نفكر في المخرج). وبينما لم تتمكن القوى السياسية من تحقيق توافق في الرؤى حول التغيير، فقد أصبح هناك وفقاً لتحليل حزب الأمة 3 وجهات نظر رئيسة على الساحة السودانية لتحقيق ذلك: 1- اقتلاع النظام واقصاء المؤتمر الوطني تماماً من الساحة السياسية ويقصد بذلك الحركات الثورية المسلحة. 2- التغيير من خلال الوضع القائم كما يرى المؤتمر الوطني والمجموعات المتحالفة معه وهذا برأي الفريق صديق سيعيد انتاج الأزمة من جديد. 3- التغيير من خلال سياسات ووسائل سلمية تؤدي الى الاستقرار المطلوب في الوطن. حزب الأمة وفقاً للسيد نائب الرئيس الفريق صديق الأمين يقف الى جانب السيناريو الثالث وهو ما يسميه ب(السيناريو التوافقي) الذي يعتقد أنه سيحقق تطلعات الشعب السوداني ويعزز الاستقرار ولن يؤدي الى هزات وزلازل كالتي شهدتها بعض دول الربيع العربي، مؤكداً أهميته لتجنب ما حدث في مصر التي تشهد بنظره علامات فتنة كبرى لأن التغيير لم يكن قائماً على اتفاق حول بديل للنظام السابق، حتى نتيجة الانتخابات يرى الفريق صديق أنها جاءت كاشفة لمدى الانقسام في المجتمع المصري، ما يعني أن التغيير لم يحظ ب"انحياز شعبي كامل". وكذا الحال في تونس، غير أن "ربيع" مصر وتونس تميزا حسب نائب رئيس حزب الأمة بتوفر عنصرين رئيسيين هما: أولاً "المفاجأة" ولعب دوراً اساسياً في التغيير(وهذا العنصر لم يعد متوفراً)، ثانياً رغبة المجتمع الدولي التي تلاقت إرادته مع الإرادة المحلية للتغيير. أما في ليبيا، فقد جاء ثمن التغيير "فادحاً" كما يقول وذلك لغياب عنصر المباغتة، فيما اكتفى اليمن بتغيير النظام من الداخل من خلال تسوية في غياب عنصري "المباغتة" والإرادة الخارجية. بعد استعراض واقع الثورات العربية قال الفريق صديق: (في السودان لا نريد ربيعاً عربياً، لكننا نريد فجر عربي جديد لأننا عرفنا الربيع العربي قبل 50 سنة)، مستبعداَ حدوث استقرار في السودان، ما لم تتوافق كافة القوى السياسية على اتفاق بديل يحقق التحول الديمقراطي والسلمي الصحيح، لكن دون عزل أو اقصاء لأحد، وذلك لتقديم الحلول للأزمة السودانية والاتفاق على تداول سلمي عبر آلية يتفق عليها الجميع. ويرى مراقبون أن العقبة الكؤود أمام تحقيق مخرج للأزمة السودانية هو المؤتمر الوطني الحاكم الذي تحمله المعارضة مسؤولية كل هذه الأزمات التي تتجلى في أسوأ صورها في تقسيم السودان الى دولتين وتعريض ما تبقى من البلاد الى مخاطر تقسيم جديدة. والمؤتمر نفسه وفقاً لهؤلاء، يتهدد امكانية تحقق "التوافق" الذي يبدو مثالياً لحزب الأمة ويتطلب انجازه بحسب الفريق صديق الاتفاق على "البديل" وبرنامجه، وعلى حكومة قومية انتقالية تتكفل بالقيام بمهام محددة من بينها برنامج للسلام الشامل، واجراء انتخابات حرة نزيهة بعد الاتفاق على دستور دائم متفق حوله ومتوافق عليه .. (فنحن نريد أن نرد الأمر للشعب وليس من مصلحة الاستقرار أن نمشي في اتجاه عزل فوقي)..!! وخير رد هذا الطرح جاء على لسان أحد كوادر حزب الأمة الذي أكد صعوبة اقناع المؤتمر الوطني الحاكم بالحلول المطلوبة وسرعة تبنيها لمنع انتقال عدوى الانقسام الى ولايات السودان الأخرى، متسائلاً عن مدى امكانية اقناعه بحيوية هذا المشروع وضرورته ليس لإنقاذ السودان فحسب وإنما لإنقاذ الإنقاذ نفسه من هذا المستنقع!! ومما يزيد من تعقيدات الموقف ويحيل رؤية حزب الأمة الى مجرد "يوتوبيا" وضرب من الخيال لا يمكن تحقيقه، "الدستور الدائم" حيث تسعى حكومة الانقاذ حالياً للفراغ من انجازه كأولوية تسبق الانتخابات القادمة والتي لن تكون كما يشددون، أقل تشويهاً من سابقتها التي أرغم حزب الأمة على التعامل مع نتائجها ومخرجاتها ك"أمر واقع" لا يمكن الالتفاف حوله. كما لن تجرى الانتخابات "النزيهة" وفقاً لمنظور حزب الأمة وستتمسك حكومة الانقاذ بالحكومة العريضة مكتفية بمشاركة رموز كبار من الحزبين الأمة والاتحادي عوض الحكومة القومية، وكلها تطورات تجهض السيناريو التوافقي للحزب. وحتى في حالة القبول بهذا السيناريو من قبل المؤتمر الوطني الحاكم يقول معارضون لتوجهات حزب الامة، فإن ذلك سيكون "مكسباً" ل"المؤتمر" لأن هذا التوافق يبقي له ولكوادره كل ما تم تحقيقه من ثروة ونفوذ عبر استغلال السلطة، ويسقط من أيدي ضحايا الإنقاذ كل أمل في استرداد حقوقهم، ما سيعزز "قوة" المؤتمر الوطني ويمنحه "ميزة تنافسية" وأفضلية محسومة في اي معترك انتخابي قادم. على الرغم من ضبابية الرؤية، يؤكد قادة حزب الأمة أنهم قد فرغوا من اعداد البديل الديمقراطي المناسب لإحداث التغيير في السودان، الى جانب تطوير الأجندة الوطنية لبرنامج يتناول كافة القضايا ويهيئ الأجواء لمناخ سلس يحقق التوفق)، واعتبر الفريق صديق أي محاولة لاستبعاد الحزب الحاكم "عزلاً فوقياً" لا يمكن القبول به، مشيراً الى تباين وجهة نظر حزب الأمة مع قوى الاجماع الوطني حول قضايا ثلاث على النحو التالي:- 1- الفترة الانتقالية: هم يرونها وبخاصة الحركات المسلحة 6 سنوات وحزب الأمة عامين ولكن يكاد يكون هناك اتفاق على فترة زمنية تتراوح بحدود ال 30 شهراً. 2- النظام رئاسي أم برلماني، حيث يرى حزب الأمة النظام الرئاسي مخرجاً من المخاطر التي تحدق بالسودان وفي مقدمتها التدخل الاجنبي. 3- علاقة الدين بالدولة، حيث هناك من يطالب بدولة مدنية تبعد الدين فيما يعتبر حزب الأمة الدين من ثوابت الامة(يتناقض هذا الطرح من نائب الرئيس مع تصريحات اخيرة للإمام الصادق المهدي تدعم الدولة المدنية). ما يطرحه حزب الأمة، يبدو غير واقعي لجهة عدم امكانية قبوله من الحزب الحاكم، أما اصراره على موقفه رغم تعنت الحزب الحاكم فقد جعل بعض الحضور يشير بأصابع الاتهام له بموالاة المؤتمر الوطني، غير أن الفريق صديق نفى ذلك قائلاً: (لسنا موالين للمؤتمر الوطني لكن الحوار كمبدأ من المبادئ الأساسية في العمل السياسي لحزب الامة)، مشيراً الى استغلال حزبه لهذه الأداة لتحقيق استقلال السودان. وبسؤاله عن مواجهات حزبه مع نظام جعفر نميري قال: (في 1970 الأخوان المسلمون هم من دفعونا للمواجهة، فيما كانت أحداث العام 1976 اضطرارية، والأخوان هم من غدروا بالديمقراطية وغدروا بالذين تحالفوا معهم وغدروا بإخوانهم وتآمروا على النظام الديمقراطي في بلادنا). ونوه الفريق صديق الى أن حوار حزب الأمة امتد لكافة الأنظمة في السودان وكافة الأحزاب(الشيوعيين ونميري وعبود والانقاذ)، كما تم دعوة المؤتمر الوطني نفسه للحوار في مؤتمر الاجماع الوطني سبتمبر 2009، وندعوه الآن للانتقال الى المربع الثالث وهو مربع الوفاق الوطني. مع كل ما سبق فقد شدد نائب رئيس حزب الأمة القول:(لن نسمح للمؤتمر الوطني لجرنا الى مربع الحكومة العريضة، أو للمواجهة التي يحسبون لها الف حساب). وبسؤاله عن امكانية تحقيق سيناريو التوافق في ظل تعنت المؤتمر الوطني ، أجاب إن هذا هو طريقة ومدخل الحزب لعلاج الأزمة السودانية بكل مسؤولية وتجرد لتحقيق التطلعات بأقل تكلفة .. وقال: (نحن نعتقد أننا نقدم عملاً مفيداً مع الحرص الكامل على مصلحة السودان و لن نكون مدخلا لإراقة الدماء طالما رأينا ان هناك مدخل آخر لتحقيق الأهداف). ورفض الفريق صديق بشدة أن يكون حزبه في موقف الحياد إزاء ما يدور من صراع في السودان في الوقت الراهن، وقال أن الوصف الدقيق لهو أن موقف الحزب عقلاني في وطن تناوشه المؤامرات الدولية والاقليمية، مشيراً الى أن حزبه رفض عروضاً للمشاركة في السلطة يسيل لها اللعاب.. (ولو عرض لغيرنا لوافق عليها ونحن الحزب الوحيد الذي لم يشارك حتى الان في الانقاذ). وبسؤاله عن مشاركة نجل الامام الصادق المهدي السيد عبدالرحمن المهدي، قال أنه قدم استقالته من الحزب ولا يشغل فيه أي موقع حالياً، كما أن مشاركته لا يترتب عليها أي التزام على الحزب ولا مسؤولية وهو منذ ذلك الوقت لم يدخل دور حزب الامة ولم يشارك في أي محفل. وفي الختام رفض وصف قدرة حزب على المناورة ب"الضعيفة"، واكتفى بالرد قائلاً: (نلتزم الصمت تجاه هذا وسيأتي اليوم الذي تدركون فيه الحقائق، مشيراً الى أن حزب يعمل على ابداع وسائل غير نمطية لإحداث التغيير الملمول ..فحزب الأمة كم يقول: (يعي المتغيرات ويعي أن هؤلاء الذين يسيطرون على الأوضاع كانوا معنا في جميع الثورات الشعبية ويعرفون آلياتها). غير ان ما يطرحه حزب الأمة من حلول سواء على صعيد التوافق أو مشروع الحكومة القومية أو الرفض الواضح للدولة المدنية تبدو للمراقب منقذة للإنقاذ ومشروعه أكثر من كونه انقاذاً للسودان، وربما يطرح أسئلة أكثر مما يجيب عليها !!