الدبلوماسية السودانية في عهد المشروع الحضاري تثير تصريحات وزير الخارجية, علي كرتي, الأخيرة الضحك حين اكتشف نظرية جديدة بأن أمريكا منحازة للحركة (والرزق على الله), كأنما الرزق قد كان على أمريكا حين جادت على نظامه بفتات الطعام من موائد اللئام, حين قدمت له آلات زراعية مقابل تعاون إستخباراتي امتد منذ إدارة بيل كيلنتون. ولقد سبق للسيد الوزير أن اكتشف نظرية جديدة أخرى - قبل أشهر - هي أن (السودان محسود), ونحمد الله أن تشخيص حالة السودان لم تكن أنه مصاب بالعين, لأن الحسد أخف وطأة من العين. تعكس هذه التصريحات قمة الإفلاس الفكري لنظام المشروع الحضاري لدى العالم الخارجي الذي ستصيبه الدهشة حين يترجم تلك التصريحات إلى لغاته. السيد الوزير يُشخصن الدول - ذات الشخصية الاعتبارية - أي يحيلها إلى أشخاص, فهي تُحسد ورزقها على الله! يُعتبر وزير الخارجية قمة الجهاز الدبلوماسي في أي بلد, ومنصبه شبيه بالمحامي إذ يمثل موكله (نظامه) في العالم الخارجي ويتطلب المقدرة على الإقناع عند تقديم (قضايا) ذلك (الموكل) والمرافعة عنها في المحافل الدولية, أو إقناع العالم (ببراءة) (موكله) حين يكون في موضع (المتهم). ومن جانب آخر, فهو واجهة الدولة لدى العالم الخارجي والنافذة التي يرى عبرها العالم الأنظمة ويقيِّمها على أساس أدائه. ولا ترصد أروقة السياسة والدبلوماسية الخارجية ما يقوله في تصريحاته فقط, بل ترصد كيف يقولها وترصد حتى مشيته وإيماءاته ولغة جسده وتخضعها لتحليل يقوم به مختصون. إلا أن السيد وزير خارجية نظام المشروع الحضاري - جزاه الله خيراً - يريح تلك الدوائر من كل هذا العناء, لأن مثل هذه التصريحات لا تتطلب مثل هذا الجهد, وتنتهي عند المترجم. لقد أتحف نظام المشروع الحضاري العالم بمسؤولين على قمة الجهاز الدبلوماسي يعوزهم الحد الأدنى من المقدرات التي يتطلبها ذلك المجال, ولا يليقون لمناصب كهذه. المثال الثاني الشهير هو ذاك الغطريس الذي أدان نفسه ونظامه لدى العالم الخارجي, حين شتم شعبه ووصفه بأنه كان شحاتاً قبل قيام مملكة المحافظين الجدد. ولما لجأ للغلاط قائلاً أن الإعلام قد حرَّف حديثه, نشرت الشرق الأوسط التسجيل الصوتي لشتيمته. ولو كان هذا النظام يكترث لكبرياء الأمة, وشاء علاج تلك الفضيحة لأقاله من منصبه, لاسيما وأنه انتمى للتنظيم على الكبر. سببت تلك الشتيمة صدمة واستياء حتى لدى العالم الخارجي, حين أدانها صحفيون عرب كالأستاذ تركي الدخيل, الذي كتب مقالاً في جريدة الوطن استنكر فيه ذلك السلوك, وجاء فيه: (بعض المسؤولين العرب يصرحون تصريحات وقحة في حق شعوبهم). كما دعا الغطريس مؤخراً الشباب والطلاب الاستعداد للحرب القادمة مع دولة الجنوب. وكجهله بالدبلوماسية, فإنه أيضاً يجهل طبيعة الحرب القادمة لأنها عتاد وحلفاء, وليس شباباً وطلابا. لقد وضع قادة الحركة الوطنية إرثاً لدبلوماسية وطنية أشرف عليها الأديب محمد أحمد محجوب ومبارك زروق, كان لها وزنها العالمي والإقليمي. وهندست تلك الدبلوماسية مؤتمر القمة العربي الوحيد الناجح: اللاءات الثلاث عام 1967م, بعد حل أكبر معضلة واجهت العالم العربي آنذاك هي القطعية السعودية – المصرية. وفي حين أن المحجوب قد ساهم في إيقاف الحرب الأهلية في نيجيريا, وكلفته المجموعة العربية بتمثيلها والحديث باسمها في الأممالمتحدة, فإن نظام المشروع الحضاري يلجأ لحل خلافاته مع مواطنيه لدى قطر التي نالت استقلالها في 1971م. وسار على هدي المحجوب وزروق سفراء كانوا كالمشاعل كالأديب محمد المكي إبراهيم والأديب صلاح محمد أحمد, الذي قال عنه أديبنا العظيم الطيب صالح: (إنه بالنسبة للناس الذين عرفوه عن قرب وأحبوه, لم يكن شخصاً بالمعنى المعروف للكلمة, ولكنه كان عالماً متكاملاً قائماً بذاته وكان لي, كما لكثيرين علماً من أعلام الخرطوم). وبما أن فكرة الانقلاب هي مشروع حضاري جديد, تسير على هديه الدول, ويبدأ من الصفر ويلغي كل المواريث السودانية, فقد اُلغِي ضمنها ذلك الإرث الدبلوماسي الغني. ورغم أنه أطول نظام حكم يمر على تلك البلاد التعيسة, إلا أنه لم يفرز دبلوماسياً واحداً ارتفع إلى مستوى العهد الوطني. وحتى مقارنة بالأنظمة الشمولية, أو أنظمة الحزب الواحد, فهو نظام مفلس دبلوماسياً. ذلك لأنه قد برز من بعضها وزراء خارجية لهم مقدرات عالية وحنكة دبلوماسية, كطارق عزيز في نظام صدام حسين, وعبد العزيز بوتفليقة في الجزائر, رغم أنه كان أصغر وزير خارجية في العالم. وبإلغاء امتحان الخارجية أصبح بإمكان أي شخص أن يتقلد المناصب الدبلوماسية في عهد التتار. تطرقت, حين كنت طالباً في الهند, لبعض قضايا الطلاب خلال لقاء جمعني مع عبد الله الحردلو, سفير السودان في نيودلهي, وهو ضابط شرطة متقاعد, فقال لي: (أنا ما بخاف من الطلبة كنت بضربم بالبمبان في السودان). وكانت السفارة قد أصدرت خطاب عدم ممانعة لأحد الزملاء لمنحة تقدمها الحكومة الهندية للدراسات العليا. وبعد فترة صار ذلك الزميل نشطاً وكتب مقالات في الصحف الهندية توضح انتهاكات حقوق الإنسان في السودان. فكتب السكرتير الثاني, عبد الرحمن شرفي للجهة المختصة بتلك المنح يفيد بإلغاء عدم الممانعة. فالتقينا بالمدير المسؤول عن المنح وشرحنا له بأن المسألة كيد سياسي فضحك وقال: ظللت أعمل بهذا القسم لمدة 27 سنة ولم يحدث أن أرسلت لنا سفارة خطاب عدم ممانعة أعقبه خطاب ممانعة. اذهبوا فلن أعمل بهذا الخطاب واحتفظوا بالسر. واحتفظنا به وواصل الزميل صرف المنحة حتى تخرجه. كما أفادنا ضابط شرطة مستغرباً, قُبيل مسيرة احتجاج نظمها اتحاد الطلاب في نيودلهي, بأن السفارة قد أرسلت لهم خطاباً يفيد بأن العديد من الطلاب الذين سيساهمون فيها منتهية إقامتهم. هؤلاء فاتت عليهم حقيقة بسيطة هي أن الهند كبلد راسخ الديمقراطية يتعاطف مع, ويقدم تسهيلات للطلاب الوافدين من دول القمع كبورما والتبت. نعود للسيد وزير الخارجية في حادثة أخرى بدرت منه قبل أشهر معدودة. لأن سفير السودان في واشنطن من الحركة الشعبية, فقد أصدر سيادته توجيهاً لسفارة السودان في أمريكا نص على أن تمر كل طلبات تأشيرات دخول السودان عليه. هذا وزير لا يعي طبيعة منصبه السياسي, لأن منصب السفير المراسيمي أرفع من ذلك ولا يشرف على التأشيرات التي لا تتخطى القنصل. وفي الختام, كما تمنى كرتي أن تعود أمريكا إلى رشدها, أدعو الله أن يعيدنا وإياكم إلى الرشد, إن سميع مجيب الدعاء. بابكر عباس الأمين