قراءة في تجربتي الفنان المغربي منير الفاطمي والجزائري عادل عبد الصمد نجم الدين الدرعي 'لا تفكر الروح من دون صور'، بهذا التعبير عبر 'أرسطو' عن أهمية الصورة في حياة الإنسان وهو بذلك يقرّ بدورها في تفعيل التفكير وتمرير آراء الذات المبدعة، بذات القدر الذي تحمله الصورة لنتمكن من تناول هذا الإشكال، وما يحملنا إليه الأثر الفني في الممارسة التشكيلية العربية المعاصرة نجد من الضروري اقتصار الحديث أساسا على الصورة، هذه المسألة التي من الضروري الوقوف إلى تحديد ماهيتها، التي في الواقع تعتبر مسألة معقدة وذات تشعبات عدة، تحتاج إلى البحث والتعمق في خبايا المفاهيم. ففي اللغة العربية يعرف المعجم لاروس الصورة بأنها ' الشكل والتمثال المجسم، وهي بمثابة خياله في الذهن أو العقل' . إن لصورة عدة دلالات وأبعاد، التي يمكن من خلالها الوقوف على أهمية العالم البصري في إنتاج المعاني، وبلورة المواضيع، وفي تأسيس القيم الجمالية. فهذه الصورة تتميز بنسق أيقوني خاص، تخاطب به المتلقي بصفة مختلفة عما تخاطبه به اللغة، فإذا كانت اللغة تصف وتسرد بواسطة الكلمات والجمل بحسب ما يقتضيه النسق اللغوي، فإن الصورة تسرد بفضائها البصري وما يؤثثه من مكونات تنبني على ثنائيات متعددة تأسس لحوار فكري بينها وبين المشاهد، المتلقي. فقراءاتها تتطلب منا استيعاب فهمها والانخراط في حضارتها من خلال التطرق لطبيعتها وتحديد أنواعها، وتحليل ومكوناتها وتسنين لغتها، وهو ما من ضمنه أن يفتح باب قراءتها وتأويلها فهي تتميز بكونها قابلة لهذا، وهوما قال عنه الأستاذ حبيب بيدة في محاضرة بعنوان منهجية قراءة العمل الفني 'يمكن القول بأن التأويل لازم، وفي الكثير من الأحيان هو الذي يعطي العمل مظهره الفني وأكثر من ذلك فهو الذي يحوله إلى طاقات، إلى قوى فعل الفني'. فهي بذلك تنفتح على جميع الأعين التي تنظر فيها وإليها، إذ تمنحنا إمكانية الحديث عنها، وتقديم تأويلات متعددة ومختلفة حولها فقراءة الصورة وتأويلها من البنيات المؤسسة لثقافة الصورة، لأنها كما يقول ريجيس.دوبري' علامة تمثل خاصية كونها قابلة للتأويل' . وقد عمدت العديد من المقاربات الفلسفية والفكرية على غرار 'فيرناند دي سويسير' ورولان بارث' عميق الأثر في دفع مبدأ التأويل إلى أبعد الحدود من خلال المصطلاحات والمفاهيم التي إرتكز عليها صدى بحثهم في هذا المجال، الذي توصلوا من ضمنه إلى الحصول على الإجابة على عديد التساؤلات المهمة عن كيفية التواصل: كيف نتواصل بصريا ؟ وكيف نقرأ رسالة بصرية ؟،وكيف نكوّن ثقافة بصرية ؟، وإلى جانب هذه الأسئلة، هناك أسئلة أخرى تصدى لها رولان بارث بالإجابة في بحثه عن عناصر السيميولوجيا التي طبق بعضا منها على الصورة باستعادته لأطروحات والمقولات اللسانية لدسوسير (اللسان /الكلام، الدال/ المدلول). وانطلاقا من هذه المقاربات والمصطلحات، برز أن لصورة معاني ورهانات معرفية ودلالية فهي تعتبر دائرة موسعة مكمن لتعدد القراءات والتأويلات من خلال مضامينها التي ترتقي بها (الإيحاءات، الرموز...) فالصورة تحمل في طياتها لغة فريدة قائمة بذاتها تجسد عدة خاصيات أهمها خاصية التفكيك وإعادة التركيب وهذا حسب دلالات المشاهد أو المتقبل، فهذا الأخير يقرأ ويؤل الصورة بحسب وضعيته الفكرية، الثقافية والإيديولوجية... فيقيمها ويهتدي من خلالها إلى عملية تفكير مضنية ترمي به أحيانا في صراع مع الذات والواقع محاولا إبراز ما في خباياها من مضامين. فالمتقبل يحاول إدراك طبيعة الصورة وتحليلها قصد تجاوز دائرة القراءة والوصف والوصول إلى دائرة التأويل التي تتطلب من المتقبل التفكير فيها حسب وضعيته ومرجعيته. حيث يقول إمبرتو إيكو في هذا الصدد ' كل أثر فني حتى وإن كان مكتملا ومغلقا من خلال اكتمال بنيته المضبوطة بدقة، هو أثر 'مفتوح' على الأقل من خلال كونه يؤول بطرق مختلفة دون أن تتأثر خصوصيته التي لا يمكن أن تختزل. ويرجع التمتع بالأثر الفني إلى كوننا نعطيه تأويلا ونمنحه تنفيذا ونعيد إحياءه في إطار أصيل' . إن الصورة مهما كان تجسيدها (معقد أو بسيط ، فوتوغرافية أو وثائقية) فإنها تستمد قوتها التعبيرية من خلال قراءة المتقبل وتأويله لأنه ليس الفنان من يحتكم على مفاتيح الصورة بل القارئ المتقبل من يملك مفاتيحها، فهي دائما تحتاج إلى مؤول يكلمها. لتبقى التأويلات مستمرة مع استمرار الصورة، وربما هذا هو السر الذي جعل كل حضارة لها طريقتها الخاصة في قراءة الصورة، بما هي لغة. وبذلك أضحت تلعب دورا خطيرا وبالغ الأهمية في إيصال المعلومات وتأويل مضامينها في هذا العصر إذ 'لعبت هذه الكلمة ودلالاتها دورا مهما في فلسفة أفلاطون، وكذلك في تأسيس كثير من أنظمة التمثيل أو التمثل للأفكار والنشاطات في الغرب' . فهذه الصورة بمختلف عناصرها، ومكوناتها، وأبعادها متعددة، لها علاقة وطيدة أيضا بإحداث الأزمات، أو قد تكون هي السبب الرئيس في نشوب بعضها هنا وهناك . ولأول وهلة يبدو واضحا أن الصورة التي قد تؤدي إلى إحداث أزمة هي تلك الصورة التي تحمل موقفا معينا أو إيديولوجيا أو صورة مصنعة لغرض شخصي أو ما يمكن أن نسميه ب:'الصورة الشحنة' ، بمعنى الصورة الملونة بخلفية صاحبها وليس الصورة كصورة مجردة من هذه الخلفية . وقد مثلت هذه المسألة (الصورة) مع كلا الممارستين، ممارسة الفنان المغربي منير فاطمي، والجزائري عادل عبد الصمد، جملة من التصورات الذهنية مرتكزة على عدة ثنائيات، الهدف منها هو تأسيس لسجال فكري بين الفنان / الصورة / المتقبل. و بالاستناد إلى المضامين التي قامت عليها أغلب أعمال الفنانين من حضور لصور اختلفت تمثلاتها وتعابيرها التشكيلية، بين التنصيبي، الفوتوغرافي، الفيديو... مضامين متنوعة و مختلفة ترنو من عمل الى أخر مولدة لتقنيات و معالجات جديدة مبتكرة و قريبة من الواقع، تتضمن رؤية طلائعية و أفكارا جريئة لا يمكن تميزها بين ما هو افتراضي و ما هو واقعي حيث يقول 'شاكر عبد الحميد' في ذلك ' اصبحنا لا نعرف ما الواقع و ما الخيال في عالم الصورة المحاكية' . يسعى من خلالها 'الفنانين' لتحقيق مواقفهم و تعبير عن اهتماماتهم وأرائهم التي مثلت خصائص معجمهما التشكيلي الذي من ضمنه يموه المتلقي ويتركه في دائرة من الشك و عدم اليقين، فيظل حائرا و في صدمة امام مشاهدة او تفسير المنجز أمامه و هو ما يجعله يطرح تساؤلا فيما ان كان هذا الامر يتعلق بوهم للحواس او انه انتاج خيالي؟ ام ان ما يشاهد هو فعلي و واقعي؟ إن الفاعل الحقيقي في المجتمعات المعاصرة هو ثقافة الوسائط المتعددة وعلى رأسها الصورة، بما تفرضه من نظم الإيديولوجيات' إذ يتعامل كلا الفنانين 'فاطمي' وعبد الصمد' مع الواقع بأسلوب فكري ذهني محاولان الغوص من خلال أعمالهم في عمق الواقع بما هو صورة وأحداث قائمة على وقائع وخلفيات إيديولوجية. ينسجان أفكارهما عن التموضع الوجودي للإنسان المعاصر، سعيا منهما إلى طرح أفكارهما وأرائهما حول هذه الأحداث المتواترة والمتسارعة في عالمهما بأسلوب إبداعي، يتضح من خلال الصورة التي تعتبر قبل كل شيء إنتاج ينقل الفكر والثقافة والحضارة والفنون والأحداث، وهي من هذه الزاوية وعاء لكل هذه الروافد أو هي شكل تعبيري شبيه بالأنواع الأخرى كالخبر والتقرير والتعليق والمقال، فهي برأي حسن حنفي: 'العالم المتوسط الواقع والفكر، بين الحس والعقل، فالإنسان لا يعيش وسط عالم من الأشياء... بل وسط عالم من الصور، تحدد رؤيته للعالم وطبيعة علاقاته الاجتماعية، وإن الحوار الذي يتم بين طرفين إنما يتم بين صورة كل طرف في ذهن الأخر' . ومن المفروض أن تعكس هذه الأنواع، الواقع بشكل مباشر وواضح وتسعى إلى تفسير وتحليل الظواهر والتطورات مستهدفة في ذلك لإيصال رسالة محددة لقارئ تخاطب بها ذهنه ومشاعره قصد ترسيخ قناعة محددة لديه. ومن ثمة تمكينه من أن يفهم الواقع على ضوء هذه القناعة وبالتالي دفعه لأن يسلك سلوكا يتماشى مع هذه القناعة. حيث تقول الكاتبة السورية صفاء روماني في هذا الصدد ' نتيجة لكل هذه الأفكار يشكل الفن المعاصر تحديا للأفكار التقليدية للعمل الفني وللجمهور وللفنان نفسه وهذا ما ساهم في إحداث تغير نموذجي في الممارسة الفنية التقليدية. وتحول الأمر من التركيز على العمل الفني نفسه إلى التركيز على امكانات ما بعد العمل الفني، وعلى التفاعل الرشيق بين مظاهره المختلفة والمتلقي' . إذن فالصورة أو الأثر الفني الذي يقدمه الفنان، يعرض نفسه على القارئ من خلال إشارات صريحة ومقنعة وتلميحات ضمنية ورمزية، يتقبلها هذا الأخير، محدثة فيه ارتباكات أو اضطرابات أو هزات موقظة في ذهنه الشك والحيرة للمسلمات التي ينبني عليها، ساعية في ذات الحين إلى خلخلة، تصحيح، أو إعادة إنتاج هذه السواكن والقاناعات، وهو ما يسميه 'هانز روبرت ياوس' ' تغيرا في آفاق التوقعات ' على عكس ما ذهبت إليه سوسيولوجيا الأدب الذين يقرون أن الباث موثق إلى جمهور متقبليه، وإلى الوسط الذي يوجد فيه، وإلى الآراء والإيديولوجية السائدة في زمنه بحيث يتوجب عليه أن يقدم أثرا يوافق ' توقعات قرائه '. ويقدم لهم الصورة التي يحبون أن يروها لأنفسهم. بهذا أضحت الصورة تمثل منهجا لتوليد الأفكار ومسار لزعزعة الثوابت وإعتاق كينونة لتبحث في عقدة الإيديولوجية وتحاور الأخر بمعزل عن أصوله الفكرية والعقائدية لتكون بذلك الصورة كمادة تنتشر في فضاء الذهن لتجعل منه منبعا للإبداع والإنتاج ومنطلقا لتساؤل. اعتمدها 'فاطمي' وعبد الصمد' قصد محاورة الذات واكتشاف أغوارها الذهنية وأيضا استنطاق مكنونات الوجدان ودفعها للبحث في تفرعات الوجود لتصبح الإشكالية معهما، إشكالية ذهن وفكر ووجود. حيث جعلوا من قلقهم الوجودي طريقا لتواصل ومنبعا ومسارا للانعتاق من سكون الذات، والسعي بذلك للغوص في كينونتها قصد تأسيس رحلة التفاعل بين الباث بما هو مبدع، والمتلقي بما هو قارئ متفاعل ومشارك في البناء الإبداعي، وبهذا يسعى كلاهما إلى بناء صورة خالية من اللون ومتمردة على المادة لأنهما أسسا إلى ظهور صورة الفكر الحر التي 'لم تعد كما هو الحال في السابق حبيبات فضة ولون فقط وإنما هي منتجة للمعنى... فهي تشارك بكثافة في توجيه الأفكار المراد ايصالها عبر تلك العلاقة الحسية المباشرة' بمعنى أدق فاطمي وعبد الصمد في ممارستهما الفنية لم يكن هاجسهم بصري غايته اللذة بل إنه هاجسه إحراج وإقلاق الذات ودفعها لمحاورة الواقع. وهذا نستشفه من خلال عمل منير فاطمي المنزل تحت عنوان ' الأخرون هم الأخرون' Vid'o، France-Maroc، 11 min، 1999 Image، Son، Production : Mounir Fatmi Montage : Fodil Kouachi وهو عمل مسجل في فيديو، أعده الفنان على شاكلة فيلم وثائقي، حيث إنتقل إلى شوارع باريس وطرح على المارة سؤلا يمثل المشغل الاساسي للمفكرين والفلاسفة منذ بداية التاريخ وهو سؤال 'من أنا؟' ' من هم الاخرون؟' هذا السؤال الذي ينبغي أن يتعلق به بصرنا لكي نؤسس وبجدية للفكر بإعتباره فكر الوجود' . ليلتقط الإيجابات بكل عفوية ويسجلها ومنها يكون منطلق الفيديو، وفي هذا العمل لم يركز فاطمي على فئة معينة من المارة بل إنه إنهل بسؤاله على كل من يمر من أمامه لتكون الإجابات متفرقة ومتنوعة بتنوع الثقافات''. ففاطمي من خلال هذا السؤال لم يكن يبحث عن أجوبة بلاغية بل إنه يسعى إلى إطلاق العنان لحيرة الكتمان بمعنى أنه يريد زعزعة السواكن ودفعها إلى التحرر من باطن الذات لتنعتق نحو الفضاء، فضاء التواصل الحر. فإن بحثت 'أورلان' عن بيولوجية الجسد وموضعت جسدها ليكون هو ذاته جسدنا، قصد تغير نمطية التصورات العامية وتحويلها إلى إستفهامات وتساؤلات تثير الحيرة والصدمة في الأذهان. تناسخات القديسة أورلان حيث عمدت إلى إجراء سلسلة من العمليات الجراحية حورت فيها عينيها وشفتيها، لتكشف مع المتلقي الذي يشاهد هذه العمليات الجراحية التقويمية التي تمثل البيرفورمانس نفسه و لتطرح على الأذهان مدى مصداقية الأحكام الجمالية التي يطرحها الرجل ''حول المرأة و لتبينها من خلال هذا الفعل أن الجمال ليس حكرا على هذه التخيلات والمسلمات، إذ تقول 'عملي ليس ضد الجراحة التجميلية، لكنه ضد معاييرالجمال المعتمدة، ضد قواعد وعقائد مهيمنة' فقد قدمت هذه الفنانة الفرنسية فلسفة جديدة للجمال الأنثوي تهدف إلى إثارة نقاشات شمولية وأيضا إلى خلخلة الكثير من القناعات العامة . فإن 'فاطمي' ذهب أبعد من ذلك حين عمد إلى محاورة الذات وإكتشاف سواكنها الذهنية وإستنطاق مكنونات الوجدان ودفعها للبحث في تفرعات الوجود لتصبح الإشكالية مع فاطمي إشكالية ذهن وفكر ووجود وليست مسألة مقدس أومحرم أو إيديولوجية. ف'أورلان' جعلت من جسدها مرءاة عاكسة لأجساد المشاهد أما فاطمي فقد جعل من قلقه الوجودي مسارا لتواصل ومنبعا لزعزعة الثوابت والسعي بذلك للغوص في كينونة الذوات. ففاطمي يتقاسم الأدوار مع مشاهده وشخوص فلمه وكأننا به يعود بنا إلى بدايات المنطق أو التفلسف التي زرعها 'سقراط' من خلال منهج التوليد'، فليست بمغالاة منا إن قلنا بكون الصورة مع الفنان المغربي أضحت منهجا لتوليد الأفكار، فالصورة معه مادة تنتشر في فضاء الذهن لتجعل منه منبعا للإبداع والإنتاج ومنطلقا لتساؤل. فمن خلال السؤال من أنا؟ من الأخر؟ أنتج فاطمي عملا يخصه كذات قلقة ويمس ثوابت الذوات، لتتفاعل الصورة داخل فضاءها الإبداعي وتصبح منتجة لفكر تواصلي، ف'الصورة في المجتمعات الحديثة أصبحت مصدرا لصناعة وإنتاج القيم والرموز، وتشكيل الوعي والوجدان والذوق والسلوك وعلى هذا فإن نظام توزيع وبث الصورة كمادة ثقافية، ينبغي أن لا ينظر إليه كمجرد تقنية جديدة في الارسال والتلقي فقط، بل هو أيضا كيفية جديدة لتشكيل الواقع' . نهل خلاله الفنان من منظومة الفكر الفلسفي ككل. ففي هذا العمل أعاد فاطمي طرح ذاك السؤال الذي دفع به 'أفلاطون وسقراط' إلى المفكرين والباحثين ليشتغلون عليه، ذاك السؤال الذي مثل حيرة الوجودين ومن وراءهم رواد الفينومينولوجيا الحديثة على غرار 'هوسرل، مرلوبونتي، سارتر... هذا الأخير الذي أقر بأن الأخر هو الجحيم، لأنه يمثل لغزا تدفع لحيرة التساؤل عن منهج التواصل وليس بصفته العدائية ولهذا أعاد الفنان توثيق هذا السؤال والخروج به عن مساره الفكري ليطرحه على العامة لأنه يعي أن هذا السؤال هو الذي يشكل المفاهيم المعاصرة على غرار 'الإرهاب، الإقصاء، المسيح، الإسلام...' وبذلك صاغ فاطمي سؤالا مثل إشكالا وجودي ليصبح معه حاملا لإشكال تواصلي يريد من ضمنه خلق فضاء تشكيلي متحرر تجتمع فيه الصورة وإنعكاساتها الفكرية وإيديولوجية لأن 'كينونة الأخر هي ما يغيط الأنا ويؤرقه، لذلك تعمل العلاقة أناالأخر على شاكلة العلاقة ذاتموضوع في المعرفة كما في الوجود والسياسة' . ويبقى هذا الفيديو المبرهن الأساسي على إنشغال الفنان بالواقع بما هو كينونة وجودية ومبحث فكري وذهني قابلا لتحوير إن زعزعت ثوابته وتحررت سواكنه الإيديولوجية والعقائدية، على غرار عمله المقدم تحت عنوان 'La cite de lurgence' والذي يعرض تفجير عمارات في ضاحية من ضواحي باريس أمام حشد من المشاهدين. La cit' de l'urgence 2010، France، 9 min 13، HD، colore، st'r'o. فمن خلال هذا العمل عمد الفنان إلى دفع المشاهد في دائرة من الحيرة والشك حيث يقول الأستاذ نعمان قمش في هذا الصدد وبالتحديد في هذا العمل 'يعرض في الفيلم الثاني تفجير عمارات في ضاحية من ضواحي باريس أمام حشد من المتفرجين مندهشين مبهورين... نرى في تفجير العمارات اضمحلال حيهم وديارهم وتاريخهم القصير وهوياتهم المستعارة وتدور صفحات الماضي والحاضر حاملة معها حقبة من التاريخ تاركة الأخرين في إلتباس' . فالفنان منير فاطمي سعى في هذا الفيديو إلى قصد إحراج وإقلاق الذات ودفعها لمحاورة الواقع ثقافيا، هذه الذات التي تمثل المهاجر بالأساس ذو الإنتماءات عرقية مختلفة عبر عنها الأستاذ نعمان قمش ب 'أناس ذوو إنتماءات، مهاجرون وأولاد مهاجرين منسلخون عن أصولهم، يقتصر تاريخ حياتهم على سنوات استقرارهم وذويهم في فرنسا في العمارات بالذات' . فيبعثنا هذا عمل إلى الأخبار المعاصرة، والمعاش في العالم، ويقدم لنا صورة شبيه بالصورة التي تحدث عنها الباحث حميدة مخلوف في كتابه مجتمع الصورة بين ثقافة الفراغ وفراغ الثقافة بتمثيلها بصورة الصراخ والعويل والندب والنواح والفجيعة والأشلاء المتناثرة والوجوه المولولة والبيوت المهدمة والأعضاء المشوهة والدماء المتدفقة ومنظر الحروب' . إذ نرى فيها إشارة لعلاقتنا مع الأخر ورؤيته لنا في ظل التشنجات السياسية العربية / الغربية، تتعدى فيه الصورة إشكالية التصور الجمالي لتتشكل كأداة تصور ذاتي للعالم وللذات من خلاله تكون وسيلة للتواجد. وفي اهتمامه بالصورة وبأخص كينونة الذات وما تنبني عليه من قناعات ومسلمات عقائدية وفكرية. يجعلنا الجزائري عادل عبد الصمد نقف عند عمله الذي أنجزه سنة 2008 (فيديو على شاشة، 2:20 د، بالألوان) محاولا فيه تقديم تصور ذاتي خلق فيه صورة خيالية لا ترتبط بواقعية إلا من خلال عنوانها حيث أنه عرضها تحت عنوان ' هكذا قال الله' عنوان اتخذه من كتاب فريدريك نيتشه 'هكذا تكلم زرادشت' التي يصور فيه حياة سوبرمان الذي يتجاوز خوفه. ' Also sprach Allah '، 2008 Vid'o et dessin sur tapis Courtoisie de lArtiste et David Zwirner، New York وفي هذا العمل، تمسك مجموعة من الرجال ببطانية وتلقي من خلالها الفنان عادل عبد الصمد في الهواء إلى أعلى لكي يصل إلى قطعة من السجاد ملصوقة في السقف. وفي كل مرة يحلق فيها في الهواء يضيف علامة واحدة حتى تظهر كلمات باللغة الالمانية (الزوشبراخ الله) وتعني (هكذا قال الله). ويحيلنا هذا العمل إلى القضايا الدينية المتعلقة بالكفاح والتضحية، كما يظهر كيفية قيام المجموعة بدفع الفرد للقيام بفعل ما باسم السلطة الدينية. ويترافق عرض الفيديو مع عرض لقطعة السجاد التي انجزت عليها الكتابة، حيث أن هذا العمل ينقسم ضمن جزأين مجزئين بين الرسم في مرحلة أولى وبين الفيديو في مرحلة ثانية ، يسعى من ضمها الفنان أن يبلغ صورة حاملة لتوجه وجودي غايته إثارة الفكر وتنشيط المخيلة عند المتلقي ليعيد صياغة مساراته الفكرية ويقحمه في دائرة من الأسئلة الوجودية تلوج به في عمق عقيدته، وفي ذات الحين في أن تلتحم خيوط أفكار وتصورات الذات التي تنبني على هيكلة مرصعة بأعراف ثابتة الهيئة. بمعنى أدق يرنو'عبد الصمد' بتقديم هذا الإنتاج الإبداعي كإشكال يمكن أن يؤسس لخلق جملة من التصورات والأفكار التي تكون وسيطا بين المتلقي ومحتوى العرض مثلما هو الشأن الذي يتراءى لنا في أعمال 'فاطمي'. لأن السجال التي تسعى إليه كلا تجربتي الفنانين 'فاطمي' و'عبد الصمد' هو نقد للأفكار والمواقف والأوضاع والمسلمات التي تكمن في هيكلة ذهن الذات من خلال إستراتيجية الصورة، هذه الأخيرة التي يعتبرها د. نزار شقرون أنها تحمل 'سلطة خاصة في كل العصور، وفي جوهرها قوة تتجاوز الوسيط للتملك المشاهد' ، وتسعى به نحو الإرتقاء الثقافي الذي هو الشرط الأول للازدهار والتقدم وترنو بالذات إتجاه تغيير طريقة التفكير وذلك بممارسة التحليل وبسجالات الفكر التي تحتدم بين الاتجاهات المختلفة والتطلع الدائم نحو الأفضل والأكمل وعدم الاكتفاء بأي انجاز متحقق ولا الاقتناع بكماله فليست المسلمات الجاهزة هي التي ترتقي بطريقة التفكير ولا هي التي تغير مجالات الاهتمام ولا هي التي تبني القدرة على الابداع والإنتاج وإنما الارتقاء والتغيير مصدرهما التحول الثقافي الذي يتمخض عنه اكتشاف خطأ المسلَّمات الراسخة في ذهن الأنا الشرقي، بإعتبار ذلك هو مفتاح والشرط الأول للتقدم وهو المحرك الدائم للتطور. إن هذا العامل الأساسي هو السر الأكبر للازدهار الأخر الغربي وهو المحرض الأول والدائم لانجازاته الغامرة والمتواترة في كل المجالات.