اطلق د.غازي صلاح الدين مصطلحه الشهير (تسليع الوحدة) وفسره بأنه يعني اتخاذ شيء ما سلعة وتحديد قيمة مادية له.غازي قال ذلك في سياق استغرابه لمطالبة الوطني بتقديم مزيد من التنازلات من أجل رفع مهر الوحدة. الرد على غازي جاء سريعا من بعض القيادات في الحركة الشعبية.. لم تجد هذه القيادات فرصة أفضل من اعلان المؤتمر الوطني استعداده لاعادة النظر في قسمة الثروة، لتسدد هذه القيادات عبر اعلان الوطني هدف التعادل. قالت هذه القيادات ان العروض التي يقدمها الوطني من اجل وحدة السودان شديدة الشبه ببائع طماطم ليست لديه ثلاجة، ولما خاف على بضاعته من التلف أخذ ينادي في آخر الوقت(الصفيحة بي الف جنيه). ويبدو ان رفض الجنوبيين الواضح لأية صفقة ثمنا للوحدة دفع بعض الخبراء والاكاديميين بأن يقترحوا على الحكومة اعلان (استقلال) الجنوب مباشرة دون اجراء الاستفتاء، والاستعاضة عن الوحدة الحالية بتقوية العلاقة بين الشمال والجنوب، وتشكيل حكومة قومية برئاسة عمر البشير تتولى الاشراف على انتقال السلطات للحكومة الجديدة في الجنوب، والتفاوض حول القضايا العالقة بين الطرفين، ونصحوا بعقد مؤتمر دستوري تشارك فيه كل الاحزاب الشمالية والجنوبية لاقرار استقلال جنوب السودان بعد عامين دون استفتاء تفاديا لنشوب حرب. من مفارقات قضية الوحدة والانفصال ان الطريق الذي رصفته العناصر المتشددة في الشمال والجنوب معا، تمضي فيه النخب السياسية بوعي او بدون وعي، ويسير فيه الى - جانب السياسيين- الخبراء والاكاديميون. الجنوب تتدحرج كرته الآن أكثر من اي وقت مضى نحو الانفصال، ولن تفلح عروض الحكومة السخية لمراجعة قسمة السلطة والثروة في فرملتها، كما لم تفلح نظرية السودان الجديد في وقف تدحرجها نحو القاع. كانت الحكومة تحدث الناس وتحدث نفسها ان رياح الاستفتاء ستهب عليها بالوحدة دون شك، غير انها ادركت بعد حين ان ذلك غير ممكن، فعدلت حديثها واشترطت ان يكون الاستفتاء حراً ونزيهاً حتى تقبل به، ثم ساورها الشك في انها علقت شرطها على مستحيل، فخفضت نبرتها وتغاضت عن شرطي الحرية والنزاهة، واصبحت تتحدث عن انها ستقبل بنتيجة الاستفتاء بغض النظر ان كانت وحدة او انفصالا. الآن زايد الاكاديميون على موقف الحكومة نفسها ودعوا الى فصل الجنوب مباشرة دون استفتاء تهدر فيه الأموال من الحكومة المركزية ومن حكومة الجنوب والمانحين، وللغرابة فإن موقف هؤلاء الاكاديميين يشبه كثيرا موقف منبر السلام العادل الذي نادى منذ وقت مبكر بفصل جنوب السودان بصورة فورية. في الجانب الآخر حاول الانفصاليون بالجيش الشعبي فرض رؤيتهم منذ بداية التمرد في الثمانينيات، ودخلوا في معارك حامية مع جون قرنق لكنه انتصر عليهم، وانتصر- مؤقتاً- لمشروعه المسمى بمشروع السودان الجديد، وبعد ان دانت له السيطرة على الحركة والجيش، وتيقن ان هناك عناصر انفصالية داخل قواته وجيشه، كان يصانع هذه العناصر التي تشتكي من مشقة تحرير السودان كله ويقول لهم ما معناه (عليكم ان تحرروا الجنوب، واتركوا لنا تحرير باقي السودان). استطاع جون ان يقنع الكثيرين بفكرة السودان الجديد، بمن فيهم رجال من الشمال بقامة الدكتور منصور خالد والدكتور الواثق كمير ومحمد يوسف المصطفى وياسر عرمان، ولكن سرعان ما تبخرت الفكرة وقبرت مع صاحبها في مرقده بمدينة جوبا، واصبحت الآن كل قيادات الحركة المؤمنة بفكرة السودان الجديد مجرد جنود يتلقون الاوامر من الانفصاليين. مالك طه