عندما زرتُ مدينة الجنينة بغرب السودان خلال الأسبوع المنصرم كانت تحضرني الدهشة أينما ذهبت وحللت في أرجاء تلك المدينة، التي يمشي الجمال فيها حافياً كحُرَّاس المدن القديمة؛ فهي أشبه ما تكون بلوحة طبيعية ربانية مترامية الأطراف والأنحاء، نائيةً بمكانها في معرض الكون الرباني المرسوم بريشة القدرة والإرادة الإلهية الإبداعية، فكل شيء هناك له أكثر من معنى ودلالة وعمق؛ الأحياء والأسواق والمراعي وعالم الحكَّامات وشعراء القبائل، جميعها تتسم بمسميات وأوصاف أشبه بالحكاوي والفوازير، وخلف كل معنىً واسم ترقدُ ثقافة منطقة وحضارة قوم؛ فأول ما سألت عنه هو اسم (دار أندوكة)، حيث أنهم يقولون الجنينية (داراندوكة)، ومعنى ذلك (أرض السلاطين) حسب تفسير أحد زعماء القبائل هناك. دهشة وحيرة!! أمَّا ما رَفَع إيقاع الدهشة في داخلي هو وجود أحد المطاعم وقد تَجَمهَر حوله عدد من الزبائن، فساقني فضولي لأرى ماذا يوجد هناك، فوجدته مطعماً للأسماك، فتضاعفت حيرتي ودهشتي معاً! طبعاً لم يدهشني السمك ولكن أدهشني وجوده (الطازج) في تلك الرقعة الجغرافية النائية تماماً عن البحار والأنهار والخلجان وحتى (تُرَع) المياه، وعضَّض ذلك اعتقادي الفطري، منذ نعومة أظافري، أنَّ غرب السودان لا يوجد فيه بحر ولا نهر. فتسألت من أين جاء هذا السمك؟ ولو كنت رأيته مثلجاً لما كانت هناك دهشة أو حيرة نسبةً لسهولة وتطور آليات النقل والترحيل والحفظ، ولكني رأيته حياً يتقافز من بين أيادي قاطعيه، فلم يسعفني فضولي على الصمت حتى سألت بائع السمك، وهو رجل خمسيني فارع القوام، متماسك البنية، كثّ الشارب، يتدلى حتى أسفل فكيه ويبدو أنه قوي الشكيمة، لأنه كان يمسك جوال السمك الذي لا يقل وزنه عن سبعين كيلو أو خمس وسبعين بكل سهولة ويفرغه بين يدي عمال النظافة؛ فسألته بكل لطف "يا معلم، السمك دا سمك من وين؟" فلم ينظر إلي ولم يعرني اهتماماً، ولكنه أجاب، دون أن يدير وجهه إليَّ قائلاً (دا سمك خراج الروح)! فأحسست بالحرج، وذلك لظني أني قد سألته سؤلاً محرجاً أو سؤالاً في غير مكانه، ولكن زال ذلك الإحساس عندما تطوع أحد الزبائن الواقفين بجوار صاج السمك قائلاً (أيوه، دا سمك خراج الروح)، فرجعت إلى رفيقي محمد الدعاك، وكيل شركة مارسلاند المقيم بتلك المدينة، فسألته ماذا يقصد هؤلاء الناس بسمك (خراج الروح)، فردَّ صاحبي الدعاك قائلاً (أيوه يا سعيد دا سمك خراج الروح). فقلت له وما معنى ذلك فقال: (خراج الروح) هذا بحيرة تنبع مياهها من أعلى جبال تلك المنطقة، ولكنها تتضاعف في فصل الخريف وتسري في ذلك المجري المائي حتى حدود تشاد. فعزمت ألا أفعل شيئاً إلا بعد أن أذهب إلى بحيرة (خراج الروح). فتحدثت إلى صديقي، وبإلحاح شديد، لنذهب إلى تلك البحيرة الآن، أو في أقرب فرصة ممكنة، ولكني أحسست بالتردد والخوف في عينيه فقلت له: إذاً سأذهب وحدي إلى تلك البحيرة، فردَّ قائلاً: انتظر قليلاً حتى أرتِّب الأمر. الطريق البحيرة خراج الروح وبالفعل جهَّز لنا الدَّعاك أمر الرحلة إلى بحيرة خراج الروح، والتي تقع في الشمال الشرقي لمطار الجنينة على بعد بضع كيلو مترات منه. ولكني لاحظت أن الدعاك ترك عربته (التوسان) الفارهة واستعان بعربة (لاندكروزر تاتشر)، وكنت أثناء سير العربة أود أن أسأله لماذا فعل ذلك التغيير المفاجئ لكون العربة الأولى أكثر راحةً ورفاهةً، ولكن ما هي إلا لحظات وتبدَّت وعورة الطريق وحِدَّة منحنياته وكثرة مزلقاناته تَرُدُّ على تساؤلاتي الداخلية، بين الكثبان الرملية تارة، وتارة الطبيعة شبه الجبلية. ووصلنا إلى البحيرة بعد أن نزلنا من العربة عدة مرات لإماطة فروع الشوك وجذوع بعض الأشجار التي تعتري الطريق، وذلك يبنبئ بأن الطريق غير مستخدم للسيارات. أمَّا خصوبة الأرض وروعة خضرتها وشدة جاذبيتها كانت كشامة على صفحة جبين حسناءٍ بارعة الجمال، مَيَّزَها الخالق على أن تكون قبلةً للأنظار ومتعةً للنفوس وانشراحاً للصدور. فقد كان الجمال يتبعثر من غير ترتيب، كما النجيمات في سماءٍ صافية ومقمرة، والخيرات من الثمار والخضروات والنباتات اتخذت من ضفتي البحيرة مقاماً دائماً لها. وصلنا بحيرة (خراج الروح) التي لا تشبه اسمها، لا وصفاً ولا ذاتاً ولا اسماً، فهممت أن أسميها (سراج الروح) بدلاً عن (خراج الروح)، ولكن مع ذلك ازددت فضولاً لأعرف سر تلك التسمية الغريبة من أعيان المنطقة وكبارها؛ ذلك بعد أن شربنا من مياه البحيرة التي كانت قمة في العذوبة والصفاء، تنساب في جمالٍ وهدوءٍ وكرمٍ يسقي تلك الحقول المترامية على أطرافها كسقي أهل الجنينة وكرمهم الفياض لضيوفهم ومرتاديهم. البحث عن سر التسمية سألت الحاجة كلثوم آدم بحر، إحدى كبار السن، عن سر تلك التسمية الغريبة لتلك البحيرة الجميلة. فرَدَّت بعد تردد، وطفقت تحكي باسترسال بعد أن بدأت في السرد حيث قالت: كانت البحيرة، ومنذ أمدٍ بعيد في مواسم الجفاف، عندما تغور المياه داخل الأرض، قبلةً للناس الباحثين عن المياه التي لا توجد إلا في تلك البحيرة، يأتون بسبل المواصلات البدائية، وربما جاء أحدهم راجلاً من أماكن نائية وبعيدة، وقد يموت الكثير عطشاً قبل وصولهم إلى البحيرة، لذا فقد سُمِّيَت ببحيرة (خَرَاج الروح). أمَّا المزارع التيجاني أبكر فقد جاءت روايته مختلفة فقال: أيام السطان بحر الدين، الذي كان قوياً في الحروب، وداهية في المعارك؛ كان يعلم علم اليقين أنَّ الأغلبية العظمى من أبناء تلك المنطقة ليست لديهم معرفة بالسباحة، لذا فقد كان يستدرج أعدائه إلى شط البحيرة ويهجم عليهم بالفرسان من على ظهور الخيل تجاه البحيرة فتموت الغالبية العظمي غرقاً لعدم معرفتهم بالسباحة، لذلك سُمِّيَت البحيرة ببحيرة (خَرَاج الروح). ولكن رواية حسين النور كانت كالآتي: (توجد في البحيرة دوّامات مائية دائرية ذات تيار قوي يجذب إلى الداخل، مهما كانت مهارة السَبَّاح، فتُردِيه غريقاً في نفس الوقت مع صعوبة إنقاذه). أمَّا صائد الأسماك بنفس البحيرة آدم بكر قال: سُمِّيَت بحيرة (خراج الروح) بهذا الاسم نسبةً لوجود أسماك(البرد) بمناطق كثيرة من تلك البحيرة، وتتواجد في مناطق شديدة البرودة نعرفها نحن الصيادين تماماً حسب عملنا الدائم بتلك البحيرة. فعندما يقع الشخص في هذه المنطقة تلدغه أسماك (البرد) ذات الشحنات الكهربائية العالية وتعجل بوفاته في الحال. ولكني وجدت مجموعات من أهالي المنطقة، كل مجموعة تلتف حول رواية معينة، عندها أدركت أنَّ وراء كل رواية أحداث وأخبار، ووراء كل كنزٍ حكايةُ وأسرار. السوداني