انقض الجنرال ضياء الحق على سلطة «ذو الفقار بوتو» المنتخبة في باكستان في عام 1977م، بينما كان جنرال السودان الثاني «ومشيره الأول» جعفر نميري يطلق شعارات القيادة الرشيدة و«يؤلف» المجلدات الثقال حول النهج الإسلامي لماذا.. وكيف ..ومتى..«وربما حتى» ! وما أشبه الرجلين وما أشبه الجنرالين.. ضياء الحق إدعى أنه صاحب مهمة تاريخية لإعادة أسلمة باكستان، وتحت رعايته نمت الجماعات الاسلامية وأفرخت وتحولت الى تيارات ممولة جيداً ومدعومة من استخباراته.. ومضى الجنرال الباكستاني في الشوط الى منتهاه حينما قاد ولي نعمته رئيس الوزراء السابق «ذو الفقار بوتو» الى حبل المشنقة قرباناً لهذه الأسلمة المزعومة، والتي لم تكن سوى ستار دخان يداري به صفقة عقدها مع الامريكان ووكلائهم في المنطقة من أجل مكافحة الغزو السوفيتي لافغانستان.. تلك الصفقة التي تحول بموجبها اقليم وزيرستان الباكستاني المتاخم لافغانستان الى معبر استراتيجي لدخول المتطوعين والمجاهدين. وامريكا يومها ما ارادت نصرة المجاهدين الافغان مرضاة لله او احتساباً في ميزان الحسنات، بل كان الامر فزعاً استراتيجياً من اقتراب الاتحاد السوفيتي من المياه الدافئة. وبنفس الملامح والشبه كان جعفر نميري قد نضبت من بين يديه كل تكتيكات التحالفات المرحلية، وافترس في مشواره السياسي قيادات الشيوعيين، ونفض يديه عن الإخوان الجمهوريين ولم تكسبه «المصالحة الوطنية» مدداً سياسياً، وأرقت نومه النقابات.. لكل هذا راح يدغدغ الأشواق الإسلامية ويغازل من نصبوا أنفسهم سدنة لهذه الأشواق، فأكرم وفادتهم وبذل لهم حيزاً من مطارف الحكم وحشاياه، وتأسى بنظيره الباكستاني ضياء الحق، فأقدم على إعدام محمود محمد طه قرباناً لهذه الصفقة. وغاب عن فطنة جنرالى باكستان والسودان«إن كانت هناك فطنة»، أن الاستراتيجيات الدولية لا قلب لها ولا مشاعر، فجنرال باكستان استنفد أغراضه في خدمة الاستراتيجية الامريكية بعد خروج السوفيت من أفغانستان، وآن الأوان لتقليم أنياب الجماعات الاسلامية الباكستانية التي أيقظها الجنرال، بينما جنرال السودان أوشك عياره الاسلامي أن يفلت من بين يديه، وهكذا احترق الأول فى طائرته، بينما عادت طائرة الثاني للخرطوم من دونه، وبقي حسيراً يرقب طي البساط الاحمر من تحت اقدامه في مطار القاهرة صباح السادس من أبريل عام 85م. وينسل من الرحم الباكستاني العسكري جنرال جديد هو برويز مشرف الذي اطاح بآخر حكومة ديمقراطية عرفتها باكستان في عام 99م، وسط استنكار مصطنع من عواصم العالم الغربي.. استنكار سرعان ما تلاشى مع تداعيات زلزال «11» سبتمبر وأنفض سرادق الأحزان على ديمقراطية باكستان الموءودة في تلك العواصم، وأصبح الجنرال الجديد مطلوباً ومشتهى. ولم «يكذب الجنرال أهله» فالقى بنفسه وبلاده في ضرام استراتيجية الحرب على الإرهاب، وعضَّ بأسنانه على «الجزرة» الأمريكية، ومثلما فعل ضياء الحق من قبله، جعل شريط وزير ستان الحدودي مع أفغانستان معبرا للاستراتيجية الامريكية، ولكن باتجاه معاكس هذه المرة.. لضرب الاصولية الاسلامية بدلاً من دعمها. أما في السودان فقد كان الشيخ وحواريوه في مطبخهم يمزجون العسكرية بالعقائدية، ويتآخى على يديه الجنرالات والشيوخ، وما فطن الطاهي النابه الى النيران وقد أمسكت بثوبه فانفض من حوله الجنرالات «والحيران» معاً. وظلت الإنقاذ بعد أن تكاثرت عليها نصال الضغوط الدولية وتعثر مشروعها الحضاري، تحاول أن تمضي طائعة أو مرغمة الى رغائب الاستراتيجية الدولية، وظل البعض يمنون النفس بأن ينالوا حظوة جنرال باكستان «مشرف» ويحلمون بسحائب أوسلو ولندن وواشنطون وهى تمطر خراجها عليهم في سماء الخرطوم. ولكن فات عليهم أن حظوة الجنرال الباكستاني- التي سرعان ما تلاشت- انما جاءت حتى لا تطال الأصولية الإسلامية باكستان موضع أول ترسانة نووية إسلامية، بينما الأمر كان مختلفاً في السودان حيث تبدو متطلبات الاستراتيجيين الامريكيين جد مختلفة، فالمطلوب هنا ليس إخماد الحرائق بل إضرامها من أجل تفكيك الخارطة السياسية وإعادة تشكيلها من جديد.