من الصعب للزائر الذي يحضر للسودان لأول مرة أن يستوعب تعطش الشعب السوداني إلى الحريات الأساسية والتحوّل الديمقراطي وعزمه على إجراء انتخاب عام ثم استفتاء شعبي بالجنوب للاختيار ما بين الوحدة أو الانفصال على ذات النمط الغربي وتوقه لأن يكون الاقتراع مثالياً يحاكي ما هو متبع بدول العالم المتقدم في وطن لم يكد يخرج من حروبه الأهلية وأزماته السياسية والاقتصادية . وقد يستعصى على المحيط العربي والأفريقي تفهم ولع السودانيين ببناء نظام سياسي منفتح على التجارب السياسية العالمية ويسعى لتأسيس نظام فدرالي في قلب القارة السمراء حيث تسود الصراعات القبلية والحروب الأهلية والتعصب الجهوري مع تفشى الأمية وشح الموارد وهيمنة المركز على اقتصاديات البلاد بينما يرزح غالبية الشعب تحت مستوى الفقر ويسكن السواد الأعظم في منازل بدائية من الطين والقش وتُطوق الحواضر السودانية بالنازحين من الأرياف سكان منازل الصفيح والخيش «والجالوص» بلا ماء نقي للشرب أو كهرباء منتظمة للإنارة أو قنوات للصرف الصحي وغيرها من والبنيات التحتية والخدمات والمرافق العامة . ومن المفارقات الغريبة أن تظهر الفضائيات قطاع غزة المحاصر بهذا الكم الهائل من العمران والمدنية والأبراج الشاهقة بينما لا تكاد ترى في العاصمة السودانية سوى أبراج وعمائر محدودة كبرج الفاتح اليتيم حيث تبدو أحياء العاصمة المثلثة الطرفية خالية من الشواهق والغابات الأسمنتية والمتنزهات الخضراء والطرق المعبدة فضلاً عن خلوها من الجماليات والتنظيم الحضري الحديث كالتشجير والأرصفة وغيرها من مظاهر الجذب السياحي والاستثماري المشهودة في الكثير من البلدان المزدهرة في مجال التنمية العمرانية . لقد تهيأت لبعض الدول العربية والأفريقية لاسيما الغنية منها فرصة توظيف مواردها الاقتصادية في توطين أسباب الحضارة والمدنية وتوفير المرافق العامة والخدمات والبنية التحتية والاحتفاء بمظاهر النمط الاستهلاكي الغربي كالمطاعم العالمية والمولات التجارية الضخمة فضلاً عن الخدمات الفندقية عالية المستوى وذلك رغم تخلف نظامها السياسي المعتمد على التوريث للحكم لدرجة جعلت للجمهوريات أسر حاكمة وأولياء للعهد لا يسمحون بتداول للسلطة خارج إطار الورثة الشرعيين كما هو الحال عند ديناصورات الأحزاب السودانية العتيقة !! . وفي تقديري أن النظام الفدرالي الذي هيأ حكومات منتخبة بالولايات السودانية يمكنه أن يجسر الهوة بين النظام السياسي المتقدم وأسباب التخلف الاقتصادي والاجتماعي والخدمي والعمراني من خلال البعد عن ترف الصراع السياسي للنخب التي شغلت المركز بقضايا الهوية والدين والدولة وعجزت عن تلبية حاجات المجتمع الأساسية من الغذاء والكساء والدواء والمسكن العصري الملائم . . ومع استعار الصراع بين ساسة المركز على مغانم السلطة والثروة التي لم تنصر للناس ديناً ولم تقم لهم دولة. . نرجو أن تسلم الولايات من عدوى الصراع العقيم.