الحرب التي دارت بين شمال السودان وجنوبه منذ أكثر من «50» عاماً، لم يتطرق خلالها إلى فصل الجنوب عن شماله، غير بعض المثقفين الجنوبيين في ذاك الوقت... ولم تفح رائحته على السطح السياسي طوال هذه الحقب التاريخية بصفة رسمية، أو في أوج الحروب في ظل الحكومات المختلفة التي توالت على حكم السودان، أياً كانت تلك الحكومات. حتى بعد أن تم توقيع اتفاق السلام بين الحكومة والحركة بقيادة الدكتور جون قرنق، لم يكن الدكتور قرنق يدعو إلى فصل الجنوب عن الشمال، بل كان ينادي بالوحدة ويعمل من أجلها لتكون جاذبة، ولكن مشيئة الله دعت إلى أن يموت في ظروف غامضة. ولكن ما ينادي به أو يعمل خلف الكواليس من النائب الأول لرئيس الجمهورية رئيس حكومة الجنوب الفريق سلفا كير، على رغم أن ظاهره ينادي بالوحدة ولكن فعائله وأفعاله كلها تعمل إلى «الانفصال»، هو والفريق الذي يعمل معه يخططون لذلك في الخفاء، وبدأت تطفح على السطح أفعالهم التي تدل على سيرهم في خط الانفصال الجاذب، ولكنهم في انتظار حسم بعض القضايا الخلافية والمادية، مثل ترسيم الحدود لمعرفة الحدود الجنوبية من الحدود الشمالية، وبخاصة أين تقع مدينة أبيي، لوجود أهم آبار النفط فيها، وأين تقع منابع النفط، وتحويل أكبر قدر من المبالغ المالية من حكومة الشمال إلى الجنوب تحت مسمى التنمية، التي لم ولن تقوم لها قائمة ليكون خيار الانفصال حقاً مشروعاً للإخوة الجنوبيين، وذلك ما أفصح عنه نائب رئيس الجمهورية في الدوحة، «بأن تغليب أحد الخيارين على الآخر يعتمد على حجم التنمية في الجنوب. فإذا أحس المواطن الجنوبي بوجود التنمية فسيميل إلى خيار الوحدة، وإذا لم تصل إليه التنمية سيختار الانفصال». طبعاً لن تقوم قائمة للتنمية في الجنوب طالما هنالك أفواه طبقية معينة تفتح جيوبها وحساباتها في الخارج، وتبلع كل ما تجده أمامها مخصصاً لتنمية الجنوب، لتغليب خيار الانفصال، وليكون عدم التنمية الدافع الأساسي لذلك، من دون أن يكونوا هم السبب الأساسي والرئيسي لعدم تنمية الجنوب، ولكي يكونوا بريئين من ذلك أمام مواطني الجنوب براءة الذئب من دم ابن يعقوب. ما هذا المنطق الذي يصدر من النائب الأول لرئيس الجمهورية رئيس حكومة الجنوب؟ في حين أن الجنوبيين هم من يدفع ثمن فشل التنمية في الجنوب بأفعالهم وفعائلهم، بدل دفعهم نحو الوحدة، خصوصاً بعد أن فاحت روائح الفساد المالي في الجنوب. فإذا كان الفشل في تنمية الجنوب يعني «الانفصال» الذي يسعى إليه الإخوة الجنوبيون، فالانفصال الكامل سيعني المزيد من الفشل التنموي في جنوب السودان. أما الكلمة التي ألقاها الفريق سلفا كير ميارديت في جوبا في الاحتفال بعيد السلام، التي قال فيها: «إنني أقرُّ بأن هناك قصوراً من جانبنا نحن، أدى إلى تأخير في تنفيذ اتفاق السلام الشامل، إننا نعترف بذلك بشجاعة، لكنني لن أتحمّل مسؤولية قصور الآخرين». كيف يقرُّ بالقصور ويعترف به بشجاعة، وفي الوقت نفسه يطالب الحكومة بتنفيذ بنودها وهو المقصر الأول وبشجاعة؟ فيا عجبي فالتأخير مقصود لأشياء في نفس يعقوب أيضاً، أهمها وأقواها «الانفصال» الذي بدأنا نحس به منذ فترة فيما يحدث خلف الكواليس، وطالما أنت وحكومتك معترفون بأنكم السبب الأول والرئيسي في تأخير تنفيذ اتفاق السلام الشامل، إذاً كيف تطلب من الحكومة أن تنفذ هذا الاتفاق وأنتم المتسببون في ذلك التأخير؟! والحكومة لها الحق في تقصيرها، طالما الطرف الأول والرئيسي في الاتفاق كان الدافع الأساسي لقصوره وعدم تقيده بتنفيذ الاتفاق المبرم بينهما، فمن باب الحياء يجب عدم مطالبة الحكومة باستعجال التنفيذ وأنت المتسبب الأول والأخير في عرقلة مسيرة «السلام» ودفعها إلى الأمام، والدليل على ذلك اعترافكم الشخصي، فالاعتراف سيد الأدلة، والاعتراف بالذنب فضيلة. فيجب عليك تحمل هذه المسؤولية التي اعترفتم بها، ولا أحد يلومك في عدم تحمل مسؤولية الآخرين، لأن الآخرين الذين تقصدهم هم شركاؤك في الحكومة، وأنت الرجل الثاني فيها، فيجب عليكم عدم نسيان ذلك، طالما اعترفتم بخطئكم. فَلِمَ تحاسبون الحكومة التي أنتم جزء منها وتشهَّرون بها؟ في حين أنكم السبب الرئيسي في الخلل الذي تتحدثون عنه في كل منابركم، وفي عدم تنفيذ بنود اتفاق «السلام» التي وقعتموها مع الطرف الآخر، أحلال عليكم وحرام عليهم. لذا أقول من المستفيد ومن الخاسر؟!... السودان هو الخاسر الأول والأخير في حال «الانفصال»، الذي سيولد مزيداً من النعرات والأحقاد والاحتراب، بعد أن تعايش الشماليون والجنوبيون معاً فترة طويلة جداً، بصرف النظر عن الديانات والعقبات التي كانت تعترض طريقهم، وعلى رغم رحى الحروب التي كانت تدور بينهم طوال «50» عاماً، كان الجنوبيون يعيشون في الشمال ويعملون في المجالات المختلفة، كما كان الشماليون يعملون في جنوب السودان في مهن عدة، أهمها التجارة، ويتزاوجون معهم من دون الإحساس بالتفرقة العنصرية أو الفوارق الطبقية الموجودة في الوقت الراهن. * صحفي الرياض [email protected]