الدكتور كمال محمد عبيد، من الرموز الفكرية والسياسية والتنفيذية، التي تعمل ليل نهار (بلا كلل أو ملل)، موسوعي وتفصيلي في آن، يصل حيثما يجب الوصل، ويفصل حين يجب الفصل، الأمور أمامه واضحة والمستقبل عنده واعد، وفسحة الأمل بلا حدود احتقب وزارة الإعلام، في التشكيل الوزاري الأخير، كأول وزير للإعلام في تاريخ السودان، بعد أن استقلت أطرافه وذهبت إلى حال سبيلها. جلسنا معه في مكتبه، وكان هذا الحوار، عن شغله الشاغل: أن يكون الإعلام حاضراً وفاعلاً ومبشراً بالغد المشرق.. فإلى مضابط الحوار. ٭ د. كمال عبيد في البداية ، دعني أقول: أنت أول وزير للإعلام في تاريخ السودان.. هذه الوزارة بدأت بالاستعلامات والعمل، ثم الإعلام والشؤون الاجتماعية، الثقافة والإعلام، الإعلام والاتصالات، هذه أول مرة تفرد حقيبة للإعلام «فقط».. وأنت الآن تحتقب هذه الحقيبة ما تعليقكم؟ - أولاً شكراً لهذه الالتفاتة، حكاية أول وزير دي «بالاول خلعتني» لأن هذا الكرسي جلس عليه رموز، لهم تاريخ وبصمات واضحة لا تخطئها العين، وفي تقديري أن وزارة الإعلام «تاريخياً» كانت من الوزارات المحظوظة، وكل الذين تعاقبوا عليها كانوا من الأفذاذ مثلاً: عبد الماجد أبو حسبو، عمر الحاج موسى، علي شمو..الخ. كما أشرت ارتبطت وزارة الإعلام سابقاً بمجالات أخرى، وتم فك الارتباط. أنا أذكر عندما شكلت الوزارة عام 3002م برز اتجاه قوي لفصل الإعلام عن الاتصالات، الاتصالات في ذاك الوقت كانت قد انطلقت انطلاقة كبيرة، وكان الرأي أن هذه الانطلاقة في حاجة إلى رعاية بدرجة خاصة. لعلك تذكر في يوم ما كانت لدينا وزارة للتجارة والصناعة والتعدين، الآن لدينا وزارة للتجارة ووزارة للصناعة ووزارة للتعدين، في السابق لم يكن هناك اهتمام بتعدين الذهب، الآن الاهتمام بتعدين الذهب على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة، ولعل هذا ما يفسر زيادة عدد الوزارات في التشكيل الأخير من «03» إلى 53» وزارة. الأطراف التي تخرج من وزارة الإعلام ينظر اليها بهذه النظرة من أجل تعزيز انطلاقتها ودفعها إلى الأمام بقوة. ٭ هل هذا يعني أن الإعلام «راكز» وقادر على المسير؟ - بالنسبة للإعلام، الأمر أكثر اشكالاً، هل العالم -الآن- بحاجة إلى وزارات إعلام أم أن مهمة الإعلام كوزارة قد انتفت بوجود شركاء جدد في المجال؟! تقدير الدولة، وتقديري الشخصي أننا بحاجة إلى وزارة إعلام. ٭ ولماذا؟ - الإعلام وظيفة لصيقة بالدولة، مسؤولية الدولة عن المواطن تفرض عليها ذلك، أية سلطة في مستوى القيادة لا بد أن تطرح الرؤية المناسبة لتطور المجتمع، لذلك لا بد من جهة أن تكون مسؤولة عن هذا الطرح، على درجة عالية من الإدراك والوعي، مثلاً، أنا شاركت في ندوة بمجلس الوزراء أخيراً، وقلت حديثاً عن ربط التنمية بالوحدة، كنت حريصاً أن يصل إلى المتلقي بصورة جيدة، وعندما طالعت الصحف في اليوم التالي للندوة، سألت نفسي: هل الذي قال هذا الكلام أنا أم شخص آخر؟! حاجة الدولة أن يكون لها لسان ما زالت قائمة. ٭ ولكن هناك تجارب لدول خرجت عن هذا المجال؟ - أرجو أن نفحص هذه التجارب جيداً، هل حقيقة خرجت هذه الدول من هذه الساحة؟! المحطات المؤثرة على الرأي العام في العالم، تبدو مستقلة، لكنها في حقيقة الأمر حكومية وأحياناً تتبع للأجهزة الخاصة جداً. ٭ ماذا تقصد؟ - تتبع لأجهزة المخابرات، ولا تتبع للجهاز السياسي. ٭ وأجهزتنا الرسمية؟ - أجهزتنا الرسمية تتبع للجهاز السياسي، وهذه درجة من الشفافية أفضل من أن يعبر عنها بأنها محايدة، وهي في الأصل تتبع لأجهزة المخابرات. ٭ الأجهزة الإعلامية مستقلة أو مملوكة للقطاع الخاص، هل رفعت الدولة يدها؟ - وظيفة الدولة أن تنظم النشاط البشري، وهذا يقتضي أن تكون في مستوى من العدالة تسمح للكل أن يشارك. وظيفة الدولة الحديثة «وما تقوم به الوزارات» هو تنظيم هذا النشاط، المطلوب أن تكون الدولة منظماً وليس المشغل. ٭ عملياً هل وصلنا إلى هذه المرحلة؟ - عند الانطلاق من نقطة إلى نقطة، لا بد أن ننظر إلى المسير، الناس دائماً ينظرون إلى النهايات ويقولون: هل وصلنا؟ وما من أحد يصل إلى نهاية إن لم يسر، نحن ورثنا دولة قابضة، شديدة المركزية، شديدة السيطرة، ووجدنا أن هذا لم يورثنا استقراراً، ولم يورثنا مشاركة للمجتمع في الشأن العام. لذلك جرى التفكير، هل تكون الدولة هي المشغل؟ أو بطريقة الأخ عبد الرحيم حمدي: هل الدولة بحاجة لمصنع ثلج؟ هل الدولة محتاجة لمصلحة مرطبات؟ القطاع الخاص، يمكن أن يقدم هذه الخدمات بأفضل مما كانت تقدمه الدولة. خروج الدولة من وظيفة المشغل إلى وظيفة المنظم، هذا هو الوضع الطبيعي للدولة، الدولة مهمتها الأساسية أن تسمح بدرجة عالية من العدالة، لاستخراج مكنونات المجتمع لمصلحة المجتمع، وترعى التنافس بين أطراف المجتمع بعدالة، اذاً الدولة نفسها أصبحت منافساً هذا يؤثر على العدالة. ٭ يعني الدولة تحتفظ بمسافة؟ - أنا أظن أن الدولة بدأت مسيرة أن تتحول إلى منظم بقوة. عندما بدأت «الخصخصة» بعض الناس كانوا يظنون أن الدولة تبيع موارد المجتمع، ولكن مسيرة الخصخصة أوضحت أن ذلك كان في مصلحة المجتمع. قارن التطور الذي حدث من مصلحة المواصلات السلكية واللا سلكية إلى ما تقدمه شركات الاتصالات الوطنية من خدمات. الانتقال بالضرورة يأخذ وقتاً، ولا بد أن نكون مدركين أن هذا الانتقال ستكون معه بعض الاشكالات أن ينتقل الطفل من الرضاعة إلى الطعام، تواجهه اشكالات، وأنا متأكد أن النتائج ستكون إيجابية، ما دامت الدولة تضع نصب عينيها العدالة وتوفير الفرص. ٭ استخدمت كلمة «إشكالات» تحديداً في مجال الإعلام هناك إشكالات؟ - إن كنا نرغب الا تقع إشكالات فنحن نتحدث عن مجتمع افتراضي جداً. الواقع أنك إذا أردت أن تنتقل لا بد أن تتوقع إشكالات، إذا خرجت من بيتك إلى مكان العمل، لا بد أن تتوقع إشكالات، «ما عايز إشكالات ما تتحرك من مكانك». حقيقة ان الانتقال لا بد له من شروط، مثلا صناعة الإعلام، لا بد من توفر بنيات أساسية، ولا بد من قدر مقدر من التأهيل، ولا أعني التأهيل التقني والقدرات فقط، وإنما التأهيل المالي، كثيرون من الذين دخلوا معترك صناعة الإعلام في الصحافة أو الاذاعة أو التلفزيون، دخلوها بإمكانيات محدودة جداً، وبدون دراسات جدوى منضبطة بالحد الذي يوفر احتياجات هذه الصناعة، ويعمل على تطويرها، لذلك أحياناً تظهر صحف وإذاعات، وتختفي دون أن يحس بها أحد. البنيات الأساسية في صناعة الإعلام في تقديري مسؤولية الدولة، إذا ما تركت للمبادرات الخاصة لن نستطيع أن نصنع مؤسسات إعلامية عملاقة، وقادرة على المنافسة، واجتياز الحدود. الدولة طرف في الإخفاق الحاصل، وعليها مسؤولية في الإنتاج الإعلامي. ٭ كيف تنظر إلى المُنتج الإعلامي؟ - المُنتج الإعلامي لا بد أن يكون مطابقاً للمواصفات، قضية المواصفات في غاية الأهمية، الذي يريد أن ينشيء مستوصفاً خاصاً لا بد أن يحصل على ترخيص، يلتزم فيه بتقديم الخدمة الطبية. الترخيص يشمل مواصفات المبنى، والأجهزة والكادر البشري.. الخ، اعتقد أن الخدمة الإعلامية أشد خطورة من الخدمات الصحية والتعليمية، على أهمية هذه الخدمات، لا يمكن أن تقدم خدمة إعلامية ممتازة من مكان غير مهيأ وأجهزة غير مؤهلة وكادر بشري ضعيف، مسألة المواصفات في غاية الأهمية والتفتيش والمراجعة المستمرة مهمان، لسلامة الخدمة، وضمان استمرارها بصورة ممتازة. العالم أصبح مؤسسة واحدة، وهناك مواصفات محددة لمؤسسات الإعلام، إذا أردنا أن ندفع بالسودان للسباق الإعلامي العالمي، لا بد من التأكد من مطابقة المنتج السوداني للمواصفات العالمية، وهذا هو التحدي الذي يواجه مؤسسات الإعلام الخاصة في السودان. ٭ عموماً كيف ترى مستقبل الإعلام؟ - أنا مطمئن للمستقبل، ومتفائل، وما تحقق من انجازات ضخمة، بائن للعيان الآن، ويؤكد أننا نستطيع أن نتجاوز الصعاب، الشعب السوداني لديه قدرة كبيرة على الاستجابة للتحديات، وفي تقديري أن مستقبل البلاد واعد ومشرق. ٭ فسحة الأمل عندك كبيرة؟ - وظيفة الدولة أن تعطي الأمل لمواطنيها، الدولة التي تزرع الإحباط في نفوس مواطنيها لا تتقدم. وتجربة الإنقاذ خلال العشرين عاما المنصرمة تعزز من هذا الأمل، في فترة كان البعض يظن أن استخراج البترول «خرافة»، وإنشاء شبكة طرق «من المستحيلات»، وبناء سد لا تستطيع أن تقوم به إلا جهة مجنونة، ولكن كل هذه المستحيلات قد تحققت. الشاهد يقول: ما دخلت الإنقاذ في تحدٍ وأشركت معها المواطنين إلا وكان النجاح حليفها. من كان يصدق أن المحكمة الجنائية الدولية التي أُنشئت لإضعاف الدول يمكن أن يحدث لها ما حدث من خيبة وفشل؟! موقف السودان الصحيح والقوي والواضح، أدهش العالم، وحفز الآخرين للتعامل مع هذه المحكمة بشكل جديد. الإرادة والثقة بالنفس مهمان جداً للانطلاق إلى الأمام. ٭ ولكن صورة الواقع، تبدو في أحايين مقلقة؟ - إذا نظرت «فقط» إلى الواقع، لا تكتمل الصورة لديك، أنا قادم من حقل التعليم: إذا صححت للطالب ورقة إجابة دون النظر إلى أدائه خلال العام، ودون ربط ذلك بالمستقبل الذي ينتظره تكون قد ظلمته. إذا نظرت إلى واقع الطالب «فقط» يمكن يكون التصحيح من «3» وليس من الدرجة الكاملة «01»، بمعنى يمكن أن يكون الطالب راسباً قبل التصحيح. إذا نظرت إلى الحاضر ورجعت بنظرك إلى الماضي وتطلعت إلى المستقبل قطعاً هناك فسحة للأمل كبيرة، وكبيرة جداً، تعزز من الثقة في المستقبل رغم إشكالات الحاضر. ٭ الإعلام التنموي ضعيف؟ - أذكر عندما عدنا من كريمة بعد افتتاح طريق كريمة- السليم (وهو طريق ياما تاه فيه ناس وطشوا) قابلني أحد المواطنين من كبار السن وقال لي: قالوا وضعتم حجر الأساس لطريق كريمة-السليم، قلت له: ما وضعنا حجر الأساس، افتتحناه، الأجيال التي عاشت في زمن الحرب والضيق لا تصدق النجاحات، وأنا أتكلم عن الجانب النفسي، تعزيز صورة التنمية والترويج لها بحاجة إلى إعلام قوي ، ومدرك لدوره. أتفق معك أن هناك ضعفاً في الإعلام التنموي، التنمية التي حدثت في السودان والمشروعات الضخمة التي تحققت تستحق إعلاماً بذات الدرجة من القوة. السودان مع اتساع المساحة وتباعد الأمكنة وضعف الموارد، إذا ما قسته بدول عظيمة الموارد، وذات مساحات صغيرة ومحدودة، وعدد سكان بسيط تدرك عظمة الإنجاز الذي تحقق، مع الوضع في الاعتبار سنين الحرب الطويلة وضعف البنيات الأساسية، طول بحيرة سد مروي «71» كلم، توجد بلدان طولها من طرفها الى طرفها لا يتجاوز «71» كلم. لاحظ أن بحيرة سد مروي جزء بسيط من محلية مروي، ومحلية مروي جزء بسيط من الولاية الشمالية، والولاية الشمالية جزء من السودان.