الدكتور كمال محمد عبيد، من الرموز الفكرية والسياسية والتنفيذية، التي تعمل ليل نهار (بلا كلل أو ملل)، موسوعي وتفصيلي في آن، يصل حيثما يجب الوصل، ويفصل حين يجب الفصل، الأمور أمامه واضحة والمستقبل عنده واعد، وفسحة الأمل بلا حدود احتقب وزارة الإعلام، في التشكيل الوزاري الأخير، كأول وزير للإعلام في تاريخ السودان، بعد أن استقلت أطرافه وذهبت إلى حال سبيلها. جلسنا معه في مكتبه، وكان هذا الحوار، عن شغله الشاغل: أن يكون الإعلام حاضراً وفاعلاً ومبشراً بالغد المشرق.. فإلى مضابط الحوار. ٭ د. كمال ما هى أولوياتكم في أجندة الوزارة؟ - نحن معنيون في المقام الأول بإكمال تنفيذ اتفاقية السلام، وإنجاز الاستفتاء، وتحقيق خيار الوحدة، ثم الاهتمام بإعادة ترتيب الأجهزة الإعلامية للاضطلاع بمهامها على الوجه المطلوب، بناء القدرات والبنيات الأساسية، ستجد منا اهتماماً خاصاً. ٭ لماذا هذا التركيز على بناء القدرات؟ - الإنسان هو أساس التنمية، التقنيات والأجهزة والآلات وحدها، لا تفعل شيئاً. الإنسان هو الذي يحقق المستحيل، ولعلك لاحظت أن الدولة خصصت وزارة لتنمية الموارد البشرية، وفي حديث مع وزير تنمية الموارد البشرية، أشرنا إلى ضرورة منهج موحد، يفرق بين التأهيل الاكاديمي، الذي هو مسؤولية وزارة التعليم العام والعالي، والتدريب والصقل، الذي هو من اختصاص تنمية الموارد البشرية. نحن الآن بصدد تطوير أكاديمية السودام لعلوم الاتصال لتضطلع بوظيفتها الأساسية في بناء القدرات. لدينا عشرات الجامعات، كليات الإعلام هى المعنية بالتأهيل، ونحن من واجبنا التدريب والصقل. نحن أيضاً مدركون أن لدينا واجباً تجاه مؤسسات الإعلام في الولايات في هذا الجانب. ٭ علاقتكم بالولايات.. هل ثمة مشاكل تذكر؟ - النظام اللامركزي، واحدة من عبقرياته، إتاحة فرصة واسعة لمستويات الحكم. - كما تعلم- لدينا مستوى الحكم الاتحادي، وحكومة الجنوب والولائي والمحلي، وتحديد الاختصاصات واضح، حتى على مستوى السلطات المشتركة. فمن حيث القانون ليست هناك أية مشكلة، قد تبرز إشكالات عند التطبيق، الانتقال من المركزية إلى اللامركزية، نقلة كبيرة، وفي فترة الانتقال يمكن أن تبرز إشكالات. ٭ الإشكالات التي تحدث في ما أسميته بفترة الانتقال.. ما هى (الروشتة) المناسبة للعلاج؟ - كلمة السر هى (التنسيق). ٭ الإعلام في الولايات مربوط بشخص الوالي؟ - ليس كل الولاة، في التجربة الماضية قد تكون ظهرت ملحوظة مثل هذه، الآن أستطيع أن أقول إن الولاة مدركون جيداً لأهمية الإعلام، وهناك انتباهة (عند الأخوة المسؤولين) إن إعطاء فرصة للتخصص هو سبب النجاح. ٭ موارد الولايات ضعيفة؟ - عندما نتحدث عن الموارد، ينصرف الذهن إلى الموارد المادية، الموارد المادية مهمة، لكنها مهما توفرت في ظل ضعف الموارد البشرية، لا طائل تحتها، بل يمكن أن توظف خطأ وتهدر، في وجود كادر بشري مقتدر يمكن توظيف الموارد المادية، على قلتها، واستنطاقها لتقديم عمل جيد وبالتالي نحن نركز على رفع القدرات، ومتى حدث ذلك يمكن الاستفادة من الموارد المتاحة، وتطوير الموارد المتاحة. ٭ لقاءاتكم الأخيرة مع وزير الإعلام بحكومة الجنوب، برنابا بنجامين؟ - كانت مثمرة للغاية، تبادلنا وجهات النظر، ووصلنا إلى رؤية مشتركة، ووقعنا مذكرة تفاهم، وهناك العديد من الأعمال المشتركة. وفي تقديري أن الفترة الانتقالية، ومنذ بدايتها إذا كانت حُظيت بمثل هذا التعاون لكنا أنجزنا الكثير. كونا آلية للمتابعة من وكيلي الوزارة على المستوى الاتحادي وحكومة الجنوب وشرعنا في التنفيذ. ٭ ما هى ميزانية وزارة الإعلام؟ - هذا ملف غير سري، هناك ميزانية مجازة للإعلام، واضحة وأحسب أنها معقولة. ٭ يعني ما مقصرين معاكم؟ - مافي تقصير.. أعطيك مثالاً، نحن دخلنا مع اتحاد الإذاعات العربية في مشروع (المينس) وطلبنا من الحكومة توفير المبلغ بالفعل تمت إجازته، وجدولته على ثلاثة أقساط، وتم الإيفاء بالقسطين الأول والثاني، والآن إجراءات القسط الثالث متحركة. ٭ قلت: مشروع (المينس)؟! - مشروع (المينس) فكرته نبعت منّا نحن، الفكرة فكرة السودان، وتبناها اتحاد الإذاعات العربية، وينفذ حالياً. ٭ بمناسبة مشروع (المينس)، كيف ترى علاقتكم الإعلامية على المستوى الاقليمي والدولي؟ - أنا عضو في مجلس وزراء الإعلام العرب، ووزراء الإعلام الأفارقة، وهذه مجالس تجمع وزراء الإعلام للتفاكر وتبادل الآراء ونقل التجارب. والسودان عضو فاعل ومشارك. هناك أيضاً مؤسسات ذات طابع تنتفيذي، مثلاً اتحاد الإذاعات العربية، الذي يجمع المؤسسات العربية العاملة في مجال الإذاعة والتلفزيون، من المؤسسات الممتازة،والسودان من مؤسسي هذا الاتحاد ، وأول رئيس له هو البروفسير علي شمو، والسودان استفاد كثيراً من خلال عضويته في هذا الاتحاد، ومشروع المينس الذي بدأ تنفيذه ثمرة من ثمرات هذا التعاون، السودان أيضاً عضو في وكالة الأنباء الأفريقية (بانا) ويعتبر واحداً من مؤسسيها. وهناك تفاهمات واتفاقات ثنائية مع العديد من الدول العربية والأفريقية. حركة السودان على المستوى الإعلامي خارجياً جيدة وسيشهد ديسمبر المقبل اجتماع اتحاد الإذاعات العربية، متزامناً مع العيد الماسي للتلفزيون. ٭ واضح أنكم تولون اهتماماً للساحة الخارجية؟ - الإعلام مكمل للسياسة الخارجية، الإعلام هو الذي يقوم ويعبر عن صورة السودان الحقيقية، وأيضاً هو المعني بتصحيح الصورة الخاطئة. وأحسب أن سياستنا الإعلامية الخارجية، وتطويرها يصب في مكانه الصحيح في مجال الاستثمار، وفي مجال علاقاتنا الإقليمية والدولية. ٭ (الحيشان الثلاثة).. فيها مشاكل؟ - من قال ذلك؟!. ٭ همس المدينة؟ - كويس أنك قلت (همس).. الناس مدرستان: مدرسة تبحث عن النجاح، ومدرسة تبحث عن الفشل. ما أنجزته أجهزة الإعلام في الفترة الماضية كان نجاحاً كبيراً، وأفلحت في تغطية الأحداث الكبيرة، العديد من أجهزة الإعلام العالمية، مثلاً كانت تراهن على الانتخابات في السودان، ستكون مصدراً للتوتر، ماذا فعل الإعلامي السوداني، وماذا فعل خلف الله ( يا خلف الله جننتنا)!! وعندما أُعلنت النتيجة تفاجأ العالم، لا توتر لا شحنة زائدة. مدعي المحكمة الدولية، ظل يسعى لتشويه صورة السودان، أنا لا أقول الإعلام وحده هو الذي انتصر، ولكن الإعلام اضطلع بدوره مع الأجهزة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والأمنية. قضية الوحدة ، الإعلام الآن يوليها اهتماماً ويضعها على رأس الأجندة. في تقديري أن الأجهزة الإعلامية تقوم بمسؤولياتها، وقياداتها (كعبها عالٍ في النجاح)،نحن منصرفون للعمل، وليس لدينا وقت لمعارك جانبية. ٭ الوحدات التابعة للوزارة مستقلة؟ - قانون الهيئات هو الذي أنشأ هذه الوحدات، وقانون الهيئات جاء تطويراً لقانون المؤسسات الحكومية، القانون منح هذه الوحدات درجة من التفويض والاستقلالية وهذا مطلوب ومهم. كما قلت لك، الأصل أن تنظم الحكومة نشاط المجتمع، وما حدث في هذه الهيئات هو تطوير طبيعي لإدارة الدولة في إشراك المجتمع في المؤسسات الحكومية، كل هذه الهيئات لديها مجالس إدارات مكونة من مكونات المجتمع المدني السوداني، السياسة الكلية تحكم هذه الهيئات، وهى مسؤولية الوزارة. ٭ هذا الرضا عن أداء الأجهزة الإعلامية، هل يعني أنكم لا تفكرون في التغيير؟ - عندما نقول التغيير، ينصرف الذهن إلى الأشخاص، الشعور بالحاجة إلى تغيير الأشخاص، كل مرة، شعور خاطيء ولا يحقق نجاحاً. سبق أن قلت علينا بتغيير الدواخل، حتى يقبل الجميع على الاستجابة لمتطلبات المرحلة المقبلة، وفي تقديري أن الأشخاص الذين يتم تعيينهم عن طريق التنافس الحر، هؤلاء يشكلون أفضل الخبرات وأفضل القدرات، أنا ضد التغيير في الأشخاص، باعتبار أن ذلك هو الحل، التغيير مطلوب في السياسات، وفي القدرات عبر مزيد من الصقل. ٭ الملحقيات الإعلامية في الخارج؟ - لا شك أنها مهمة في السياسة الإعلامية الخارجية، هذه الملحقيات سيشغلها إعلاميون وتتحمل عبء إبراز هذه السياسة وعكس وجه السودان المشرق. ٭ تجربة الآخرين في هذه الملحقيات؟ - لا غبار عليها، وأبلوا بلاءً حسناً، لكن تظل الفرصة للإعلاميين كبيرة، على الأقل يستطيعون منذ البداية الاندغام في العمل، لمعرفتهم بتفاصيل العملية الإعلامية. ٭ د. كمال أنت نائب برلماني عن دائرة جغرافية، هل عدت إلى ناخبيك؟ - لم أبتعد عن ناخبي، ولن أنقطع عن الدائرة، ومنذ الحملة الانتخابية، طرحت فكرة (برلمان الدائرة) ، برلمان الدائرة الآن شغال، أجاز لائحته ودورات انعقاده وجدول أعماله ويمكنك أن (تخطف رجلك) إلى دار المؤتمر الوطني باركويت وتعرف الحاصل، لدينا مكتب مفرغ للدائرة، ورئيس الحملة الانتخابية هو الآن رئيس برلمان الدائرة، والعمل مستمر. بالنسبة إلى قضايا المواطنين، بالفعل بدأنا في تنفيذ بعض الالتزامات، ومن خلال برلمان الدائرة نستطيع متابعة المشاكل ، والطلبات المستعجلة نسعى لحلها، وعموماً نحن ملتزمون بالوفاء بما التزمنا به. ٭ يعني الوزارة ما خصماً على النيابة؟ - لا.. ما خصم.. من أول يوم جرى فيه التكليف، كانت الرؤية واضحة بالنسبة لي. ٭ د. كمال بصفتك قيادي في الحزب، إلى أى مدى ترى أهمية أن يمسك بالملف داخل الحزب، ذات الشخص التنفيذي؟ - في تقديري أن تكريس الاختصاصات المتعارضة في جهة واحدة مضر، الأنسب أن يضطلع التنفيذي بالملف التنفيذي وأن يكون الملف في المؤسسة الحزبية في يد أخرى. ٭ هناك تصريحات وتصريحات مضادة؟! - الصحافة لها دور في ذلك، أحياناً تقرأ: المؤتمر الوطني يقول، وعندما تتفحص الخبر تجده رأياً يعبر عن قائله وليس عن الحزب. بالنسبة للخطاب الرسمي، الخطاب الرسمي منضبط، بالنسبة للخطاب السياسي، تعاظمت جهود توحيده، وهو الآن على مستوى الانضباط أفضل من السابق بكثير. ولعل الحديث عن قضايا الاستفتاء والوحدة دليل على ذلك. ٭ حديثك عن التنمية والوحدة.. قلت إن النقل له لم يكن دقيقاً؟ - أنا ركزت على الرابط المفاهيمي، التنمية هى تحقيق احتياجات الأجيال الحالية دون الإضرار بالأجيال القادمة، والتنمية لا يمكن أن تكون بمعزل عن المحيط الجغرافي والبيئة، إذا كانت خصماً على البيئة لن تكون تنمية، وإذا كانت معزولة عن المحيط الجغرافي لن تكون تنمية. لذلك قلت إن الحدود السياسية ليست حائلاً دون القيام بمهمة التنمية. التنمية التي يشهدها السودان أو تشاد أو اثيوبيا كلها في صالح الإقليم. التنمية ساحة واحدة، أنت محتاج لتسويق منتجاتك، وهذا لا يكون إلا بخلق أسواق في المحيط. الاستقرار مهم وينعكس إيجاباً، عندما كانت الأحوال غير مستقرة في الجوار الشرقي، تأثر شرق السودان مباشرة، الآن الأسواق الاثيوبية مفتوحة ومتاحة وكذا الأسواق الاريترية. بعد أن توقف التوتر مع تشاد عادت الأوضاع إلى طبيعتها، ونشطت حركة التجارة. عندما نتحدث عن التنمية في الجنوب، البعض ينظر إليها بإعتبارها رشوة. هذا غير صحيح، وهذا واجب الدولة. الدولة لديها التزامات تجاه مواطنيها، وهي تقوم - الآن - بهذه المهمة، وإذا ما انفصل الجنوب هل سيتوقف السودان عن دعم التنمية في الجنوب؟!! هذا عدم رشد، نحن الآن ندعم ثلاث قرى حدودية مع تشاد لإنتاج الطاقة الشمسية. أنا قلت إن الربط بين المفهومين غير صحيح. نعم الوحدة توفر جواً أفضل للتنمية، إذا عايز تقدم خدمة لإقليم داخل البلد، ما محتاج لإجراءات، أما إذا كان هذا الإقليم ينتمي إلى كيان سياسي آخر، أكيد هناك تعقيدات وإجراءات طويلة. وقلتُ إن أية دولة منفصلة، وبتجارب الانفصال التي حصلت في الدنيا كلها، ينظر إليها، - رضيت أم أبت - أنها أقل من الدولة الأم. مسألة الوحدة والانفصال، يجب أن ننظر إليها بقدر عالٍ من الشفافية، وهذه مسؤوليتنا كطرفين في اتفاقية السلام، وفي نهاية الأمر، ليس أمامنا إلا أن ندعم خيار مواطنينا في الجنوب.. ٭ هناك حديث عن الوحدة الراجعة؟ - الوضع مختلف، الآن حق تقرير المصير، بيد الأخوة في الجنوب، ولكن إذا حصل الانفصال، وقررت الدولة المنفصلة العودة إلى الدولة الأم، فالقرار ليس قرارها وحدها، ولا قرار القيادة السياسية في الشمال، لابد من استفتاء كل أهل الشمال، إذا قلنا عايزين وحدة مع مصر، لا بد من استفتاء شعب السودان، نحن جربنا الوحدة، ولم نجرب الانفصال، إشكالات الانفصال أعقد من إشكالات الوحدة.. العاقل من يفضل الخيار الذي يعرفه، من الخيار الذي لا يدري أبعاده وكنهه. لابد أن ننظر إلى المسألة بمعيار الحرية وبمعيار المسؤولية. ٭ د. كمال شكراً.. على هذه الإفادات - شكراً جزيلاً..