«إن أرقى ما يمكن أن يسعى له الإنسان هو البحث عن معاني الأشياء وطبيعتها» «البرت آينشتاين» إن مؤسسة التعليم العالي التي تخلو من البحث العلمي هي في أحسن الأحوال محض مدرسة مفخمة. إن التناقص المستمر في الموارد المالية للبحث العلمي في كثير من الدول النامية أصاب النشاط البحثي بمؤسسات التعليم العالي فيها بالشلل. وجامعة الخرطوم، كمثيلاتها في دولنا النامية، لم تفلت من هذا المصير المؤسف. هناك دول نامية قليلة جدا قادرة على دعم علمائها بحيث يمكنهم إجراء بحوث علمية ذات مستويات عالمية. إن تقديرات المصروف السنوي على البحث العلمي في كافة الدول النامية قد لا تتجاوز 2000 مليون دولار أمريكي حاليا وهى لا تفي حتى بحاجيات البحث في مجالين أساسيين بالنسبة لهذه الدول هما الزراعة والتكنولوجيا. ولربما تحتاج تلك الدول لأن تنفق ،وفقا لبيانات عالمية،على الأقل خمسة أضعاف هذا المبلغ . لقد أصبح واضحا، حتى في الدول المتقدمة، أن تكلفة البحث العلمي عالية للدرجة التي تتطلب تضافر جهود عدة جهات لتأسيس المعامل البحثية الحديثة. ففي أوربا تعاون عدد كبير من دولها لإنشاء المركز الدولي للأبحاث النووية في جنيف بسويسرا والمعمل الأوربي للأحياء الجزيئية والمشروع الأوربي المشترك لأبحاث الانصهار النووي في كلهام بانجلترا. إن من الواضح أن تعاونا علميا مشابها يجب أن تأخذ به الدول النامية أيضا. و المطلوب، ابتداء، تحديد أدوات مثل هذا التعاون. التعاون في البحث العلمي يبدأ بين وحدات مؤسسة التعليم العالي، ثم بين المؤسسات ، ويأتي بعد ذلك التعاون الإقليمي فالدولي. إن البحث العلمي ليس رخيصا هذه الأيام. لقد ولى الزمن الذي كان فيه هاجس إدارات البحث العلمي تمويل رواتب الباحثين فقط. أما الآن فإن تكلفة شراء الأجهزة وصيانتها تمثل الحاجز الأساسي لتجهيز المعمل البحثي الحديث. أضف إلى ذلك أن فروع العلوم أصبحت متداخلة بحيث إن البحث في مجال كالزراعة أو الأحياء مثلا يتطلب استخدام وسائل فيزيائية لتحليل المواد أو طرق كيميائية تستخدم نظائر العناصر والإشعاع، وكل ذلك يملي توفير طيف من الأجهزة المتقدمة في المعامل البحثية «كعداد قياس الوميض الضوئي، ومطيافي الكتلة والابتعاث والمجهر الإلكتروني وجهاز الرنين المغناطيسي النووي الذي يبلغ ثمنه وحده ما لا يقل عن مليون دولار أمريكي». إن ما يحمد لجامعة الخرطوم أن نائب مديرها السابق، البروفسير أبو بكر على أبو جوخ، قد انتبه لأهمية تأسيس معامل مركزية حديثة في مجامع الجامعة المختلفة، تزود بأجهزة متقدمة وتكون متاحة لاستخدام الباحثين من كافة كليات الجامعة. لقد أشرف على تنفيذ هذا المشروع الناجح الدكتور تاج السر عباس ، استاذ الكيمياء التحليلية بالجامعة والمدير السابق للإدارة الفنية للمعامل فيها، ولقد بذل جهدا مقدرا وستحفظ الجامعة له فضله. غير أن التقادم السريع لأجهزة كثيرة بسبب تزايد استخدام التحكم في تشغيل الأجهزة بواسطة المعالجات الدقيقة «micro-processors»، مما يعني ضرورة ابتكار نماذج جديدة منها، يجعل عمر كثير من الأجهزة لا يزيد كثيرا عن خمس سنوات لأن قطع غيارها لا تتوافر عادة بعد ذلك « الأرجح ان كل ذلك سياسة مقصودة من الشركات المنتجة من أجل تسويق مصنوعاتها الجديدة». وفي حين أن ذلك لا يمثل أكثر من مصدر ضيق في الدول المتقدمة إلا أنه مقعد تماما للبحث العلمي في الدول النامية حيث يشكل تمويل شراء أجهزة حديثة واستيرادها هما كبيرا. إن جامعة الخرطوم «أو أي جامعة سودانية أخرى» لا تستطيع أن تتغلب على هذه الصعوبات منفردة ومن الأفضل تأسيس معامل بحثية متقدمة على المستوى القومي. فمن الممكن مثلا أن يأوي المركز القومي للبحوث معامل مزودة بالأجهزة العلمية المتطورة والمواد المستهلكة مثل الكيماويات،خاصة الكيماويات الحيوية والنظائر المشعة التي لا يمكن استيرادها إلا من دول معينة، وأن تؤسس بالمركز أيضا قاعات للدوريات العلمية ومكتبة حديثة وربما أيضا غرف لسكن الباحثين من خارج الخرطوم مثل أساتذة الجامعات الولائية. إن من الممكن النظر في تشييد مبان للمركز القومي للبحوث من أجل جعله مركزا بحثيا عالميا يستضيف العلماء من داخل البلاد وخارجها وتنعقد فيه المؤتمرات في صالات دولية، تماما مثل مركز الأبحاث النووية في جنيف بسويسرا أو المركز الدولي للفيزياء النظرية في تريستا بإيطاليا، ليكون قبلة للباحثين حتى من الدول المجاورة. إن مشروعا كهذا سيجد دعما قويا من مانحين في أوروبا وأمريكا، وهم الآن يفضلون التعاون مع دول الجنوب على المستوى الإقليمي لا القطري. سيصبح المركز القومي عندئذ مركز تميز علمي «Centre of Excellence». إنني أدعو السيد وزير العلوم والتقانة ، وهو عالم يطربه التميز حيثما وجده، أن ينظر في هذا الاقتراح. وليت سيد القصر الجمهوري القادم يتخذ قرارا بأيلولة وزارة العلوم والتقانة نفسها مباشرة لرئاسة الجمهورية ! وإلى حين تتحقق مثل هذه المطامح المشروعة «فهى ليست بأضغاث أحلام بل إنها آمال عراض وتطلعات مقدور عليها إن صح العزم وتوافرت الإرادة» فإن ما أرجو أن تهتم به جامعة الخرطوم في حفظ وتطوير معاملها المركزية يتعلق بأمر صيانة الأجهزة فيها. لنتذكر أن الجامعة كانت قد عينت قبل سنوات تقنيا أجنبيا «من الفلبين» للإشراف على وحدة تشكيل الزجاج بكلية العلوم وآخر في وحدة الإلكترونيات بذات الكلية، وكان مرجوا استمرارهما في عملهما دعما للمعامل المركزية، وتطويرا لوحدة تشكيل الزجاج حتى تضطلع بدور رائد في توفير المصنوعات الزجاجية المعملية للجامعات وأيضا المستشفيات. غير أن خدماتهما قد أنهيت لسبب غير واضح وغادرا البلاد ، رغم أنهما لم يكونا يتقاضيان راتبين عاليين كما أنهما تركا ،كما يبدو للمشاهد عن بعد- أثرا طيبا في إحكام صيانة المعدات المعملية . إنني أري أن الاستعانة بتقنيين أجانب في الصيانات المعملية وتدريب كوادر محلية أمر في غاية الأهمية، سواء جاء هؤلاء التقنيون للجامعة لفترات قصيرة أو طويلة. ولقد أبدى المجلس البريطاني قبل سنوات استعدادا لتيسير ذلك ومن الممكن مفاتحته في هذا الموضوع مرة أخرى. كما أن من الممكن الاستفادة من خبرات قدامى التقنيين السودانيين الذين دربتهم الجامعة تدريبا عاليا في الدول الغربية واكتسبوا خبرات إضافية من عملهم في معامل بحثية حديثة في دول المهجر وعادوا الآن إلى السودان. إنني أذكر مثالا الأستاذ عمر الطيب البدوي الذي كان كبيرا للتقنيين بقسم الكيمياء في كلية العلوم. إنه وأمثاله ثروة قومية لا تقدر بثمن ومن الحكمة أن تحرص الجامعة على الاستفادة منهم، وهى التي دربتهم، وهى أولى بهم من مؤسسات أخرى تتنازعهم وتتسابق إلى خطب ودهم. إن مواكبة التقدم المستمر في المعرفة يمثل تحديا كبيرا للباحثين في الدول النامية. ومع أن شبكة المعلومات الدولية توفر الآن نافذة عالمية يطل عبرها الباحثون على آخر التطورات في مجالات تخصصاتهم إلا أن الحاجة للاتصالات المباشرة عن طريق المؤتمرات والحلقات الدراسية والزيارات العلمية القصيرة والطويلة لا تزال باقية. لقد فطنت إدارات الجامعة المتعاقبة لأهمية التواصل العلمي ودعمته في نطاق الممكن، ولعل إدارة مدير الجامعة الأسبق البروفسير هاشم محمد الهادي قد اولت اهتماما خاصا بهذا الجانب. من ناحية أخرى من المهم أيضا تشجيع ودعم زيارات العلماء من الدول المتقدمة للجامعة ونأمل أن يساعد ذوبان الجليد في علاقات السودان بالدول الغربية ،كما هو مرتقب، في تسريع إعادة علاقاتنا العلمية الدولية لسابق عهدها وتحفيز منظمات مثل المجلس البريطاني لأن تلعب دورها في مجال ترتيب زيارات متبادلة بين علماء السودان وزملائهم في الدول المتقدمة، تماما كما كان عليه الحال في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. في مجال النشر العلمي اتخذ مدير الجامعة السابق البروفسير محمد أحمد علي الشيخ قرارا بمنح من ينشر في دورية دولية مكافأة سخية وهذه محمدة تسجل له وإدارته. وأود أن اقترح مضاعفة تلك المكافأة مع ربط استحقاق صرف الزيادة بحضور الباحث لمؤتمر دولي في مجال تخصصه. وليت وكيل الجامعة يهيئ فيها مكانا يقدم وجبات لائقة مدعومة للأساتذة حتى يظلوا بمكاتبهم وفي معاملهم فيعكفون على مواصلة أبحاثهم، وتدب الحياة في أوصال الجامعة طيلة النهار كما كان يحدث قبل عقود. وكما كان يحدث أيضا، سيبقى حينئذ بعض الباحثين في معاملهم حتى لبعض الليل أو كله، مثل ما كان يفعل العالم السوداني البروفسير سمير إبراهيم غبريال، الذي فصلته الدولة من عمله في كلية الهندسة بجامعة الخرطوم في زمن كان يفصل فيه الناس لأسباب سياسية «لا أعاد الله مثل ذاك الزمن مرة أخرى». إن مسألة النشر العلمي لا ينبغى أن تمثل هاجسا لأساتذة الجامعة وذلك لتوافر قنوات النشر من دوريات أجنبية وإقليمية ومحلية كما أن هناك الآن دوريات للنشر على شبكة المعلومات الدولية on-line . وفي رأيي أن النشر في الدوريات الدولية المرموقة ينبغى أن يقدم على ما سواه وأن ينال تقديرا أعلى لتميز التقويم في تلك الدوريات ولأنها توفر منبرا لإطلاع عدد كبير من علماء العالم على المادة المنشورة، وأظن أن هذا ما ينشده الباحث من نشر ورقته. ولا يجوز أن يفهم من حديثي أنني أستخف بكافة الدوريات المحلية وأنا أعلم أن لبعضها مستوى جيداً . فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن لمجلة العلوم الزراعية التي تصدرها كلية الزراعة بالجامعة سمعة عالمية طيبة. لقد صادف أن زرت جامعة بون بألمانيا وكانت مفاجأة سارة أن ألحظ وجود مجلة كلية الزراعة في قاعة دوريات مكتبة الجامعة تطل من موقعها على رواد المكتبة، مجلة علمية هى الوحيدة من العالم العربي. إنني أتمنى أن تجعل الجامعة من هذه المجلة نموذجا يحتذى به و معيارا تقاس عليه مجلاتها الأخرى .