ولا ريب عندي أن ما تقدم من وقفة في مادة «نخر» في المظان العلمية المعتمدة عند بعض ائمة اللغة واهل التفسير والتأويل، لهو أبلغ رد على أن الشاعر شابو جانبه التوفيق في سطره: جذع خاو يتمدد في أعماق التكوين المنخورة ولتتأمل مأخذ بروفيسور عبد الله الطيب على بعض الوافريات المعاصرة، حيث اخذ على الياس قنصل «الشعر المعاصر: 244» وافريته: أنرضى بالهوان ونحن قوم ملأنا صفحة التاريخ فخرا بلينا بالتخاصم وهو داء عُضَال ينخر الأخلاق نخرا ولا أعلمُ «نَخِرَ» فعلا متعديا في اللغة، وانما يقال نخر العظم: اي بلى، ونخرت الخشبة: اي تفتَّت، ونخر الرجل ينخر نخيرا، والنخير اخو الشخير. ولا تقل لي مثل هذا النقد «فقهي» فهذا إما نظم بالعربية الفصيحة واما بسواها.. فإن كان بالفصيحة وهذا ما يزعم مؤلفه وناقدوه فاللحن فيها في نحو او صرف هجنة لا تغتفر، ثم قال: فانهكنا وغادرنا شعوبا ممزقة تجر الغَلَّ جرا وهذا تخليط اذ ليس بعد التمزيق الا البلى المحض. ومثل هذا الكلام قد يقبل من تلميذ يعالج الشعر، اما من شاب او كهل يجسر على نشر شعره فلا. ويرسم شابو صورة جديدة من صور التشبيه البليغ هي صورة المبتدأ وخبره، وهي صورة غير مألوفة في ذائقة الشعر العربي، وغير مكرورة، والمضارع يجول جولته في فضاء النص: قدري برق كاذب يشعل أيامي حزنا ويشير شابو الى القريب اشارة موحية، وفي تكرار الذال في المقطع نبرة في الموسيقى صاخبة، وفي قدرة المضارع على التصوير وعلى تفجر طاقات اللغة بناءٌ وفي الطلب الوارد مرتين في المقطع ممثلا في الامر تجريد: هذا الذاهب عني يسحب ثوبا يمسح وجه الأرض النتنا املأ هذا الكوب حتى تشرب منه خيوط السجاد واشرب متكئا لا تحزن هذا لا يعني شيء لن يحدث عطفا او ضجرا والتجريد في السطر الشعري «املأ هذا الكوب»، تجريد مكثف، له رمزيته، وظلاله وايحاءاته والدلالات علامات منقطة في النص.. «املأ هذا الكوب».. لتَذْكر اذ يتلبسك الجذب حالا من احوال المجذوب: وجراري مشمولة وعريش أخضر والحياة تملأ كوبي وبالحكمة يختم شابو وبالمفاجأة: الشفقة بنت الضعف لن نستقبل اول هذا العام المطرا الساعة الخامسة والعشرون... يختبئ أبادماك، ولوركا، وكانت، والجرجاني، وقدامة بن جعفر.. تسطع الحكمة في بيت أبي الطيب... ومن لا نهائيات نيتشة تخبىء الصفصاف ما بعد الفلسفة أوراقها.. ويهتف أبو العلاء في «معجز أحمد»: «أنا الذي نظر الأعمى الى ادبي» وفي التماعة المشهد يلمح المجذوب في كراسات شابو الأولى أثر السياب.. «اِقرأ من تأبط شرا حتى عبد الله الطيب!».. ويصنع شابو ما طلبه منه شيخه المجذوب.. وجهه الغمام وسيماه سيما العارفين.. تتوالد الصور.. الصور التي لم تولد بعد.. وترتعش قطرات المنلوج مثل زخات المطر: يا من يطوف حول النافذة يطول عند النهر صمت هذه الأشجار يموت في انتظاره نسائم الخريف العشب والبزار والحفيف ما بالُ هذه العجوز لا تجيء ترشُّ وجهي الصقيل كالزجاج نبوءة وكذبَا مرارةً قديمة وغضبا دَفّ الجناح عبر النافذة جرت من جذعها لرأسها عصارة مشتعلة