من الميزات التي لاجتماعات مؤسسة رئاسة الجمهورية انها تجعلنا نرى السيدين باقان اموم وصلاح قوش قابعين قرب الابواب المغلقة في انتظار ما يسفر عنه الاجتماع، ثم نراهما وهما يهرعان الى وسائل الاعلام يفصحان عن الاتفاق الجديد بين شريكي الحكم بلغة هادئة ورصينة تبعث على الأمل، فبدلا من ان يصرح مستشار الرئيس قوش بان قرار تحكيم ابيي غير قابل للتنفيذ وانه (لم يحل المشكلة ولم يكن عادلاً أو شافياً أو ملبياً لاحتياجات الطرفين) أو يتهم وزير السلام بحكومة الجنوب أموم المؤتمر الوطني بالتنصل عن إتفاقية السلام الشامل من خلال ربط عملية الإستفتاء بترسيم الحدود. ويهدد باللجوء إلى خيارات ينظر فيها برلمان الجنوب لحسم موقف الجنوب من الشمال في حال التلكؤ في قيام الإستفتاء في موعده المحدد، بدلا من ذلك نجد الرجلين على قلب رجل واحد يقولان ان المشاكل حُلت، وان الطريق ممهدة لبلوغ الغايات. حيث يعلن صلاح عبدالله قوش التزام المؤتمر الوطني بقرار لجنة التحكيم الدولية بلاهاي بشأن تحكيم منطقة ابيي، ويقول ان اللجنة السياسية ستشرع في تذليل كافة العقبات ومناقشة تشكيل مفوضية ابيي، ويقول ان مسألة ابيي تعتبر القضية الوحيدة التي تبقت بين الطرفين وستحسم خلال يومين، مؤكداً حسم كل القضايا الاخري، ويقول باقان اموم اكيج، ان الطرفين مصممان على حسم كافة القضايا ويقول ان الشريكين يعكفان على تذليل العقبات وصولا لاستفتاء نزيه، ويعرب عن امله في أن يذهب الطرفان المؤتمر الوطني والحركة الشعبية الى اجتماعات الاممالمتحدة بموقف موحد، كما يعلن عن اتفاق الطرفين على الامين العام للمفوضية، ويقول ان الرئاسة أعطت المفوضية قرارات وموجهات لكيفية العمل. أما الميزة الأكبر لاجتماع الرئاسة وضعه الامور في نصابها، فما ان يجلس البشير والى يمينه سلفاكير والى يساره علي عثمان، حتى نعلم بعدها ان كل شئ سيسير كما ينبغي، ومن ذلك في الاجتماع الأخير، أن شريكي اتفاق السلام اتفقا على تشكيل لجنة سياسية مشتركة لمتابعة ترسيم الحدود، ووجها بالعمل على إكمال الترسيم قبل موعد الاستفتاء، وبذا تكون احدى اكبر المعضلات قد تم تجاوزها، أو كما قال رئيس اللجنة الفنية لترسيم الحدود البروفيسور عبد الله الصادق عن النتائج التي توصل لها اجتماع الرئاسة بشأن الترسيم بأنها (خطوة كبيرة للأمام)، ومن ذلك ايضا انهما اتفقا على اغلاق باب الرجم بالغيب في قيام الاستفتاء في موعده من عدمه، فالاستفتاء سيكون في موعده بعد أربعة أشهر، ويتزامن معه استفتاء منطقة ابيي، ولا مزيد. لنكون بذلك ودعنا حقبة سوداء سمتها الاساسية الاتهامات والاتهامات المضادة، بالسعي لتعطيل إجراءات الاستفتاء من جهة، ودعم تمرد دارفور من الجهة الثانية، حيث اقر الشريكان في اجتماعها بث روح جديدة في اتفاق السلام ووقف التصعيد الإعلامي الذي سمم الأجواء وأشاع مخاوف جمة من حرب لا تبقي ولا تذر. ومع ذهاب التحليلات في اتجاهين متضادين في ما يتعلق بدافع التقاء الرئاسة ومن ثم الوصول الى الحلول المرضية، اتجاه يرى أن شريكي الحكم استخدما تكتيكات متقاطعة واوراق سياسية متضاربة من أجل ممارسة ضغوط على بعضهما للحصول على تنازلات متبادلة في شأن القضايا الخلافية، حيث شاع ان جهات في الخرطوم سعت إلى استخدام المتمردين على حكومة الجنوب لإثارة اضطرابات أمنية لتعطيل الاستفتاء، في ما لجأت جوبا في المقابل إلى استخدام متمردي دارفور والمعارضة الشمالية للضغط على شريكها، ولما لم تحقق لهما هذه التكتيكات أهدافهما، خصوصاً أنهما اصطدما بعنصر الوقت وبضغوط خارجية، ذهبا الى الحوار لتسوية خلافاتهما حتى لا يخسرا مزيداً من النقاط في الماراثون نحو محطة الاستفتاء التي تضع البلاد أمام لحظة هي الأخطر في تاريخها منذ استقلالها. والاتجاه الآخر يرى ان مؤسسة الرئاسة محكومة بالدستور وتلتزم به وتعمل بمقتضاه، ويشير اصحاب هذا الاتجاه الى ان الدستور في الفصل الثاني الخاص بتكوين رئاسة الجمهورية ينص على (تُتخذ القرارات في رئاسة الجمهورية بروح المشاركة والزمالة للحفاظ على استقرار البلاد وتنفيذ اتفاقية السلام الشامل)، وبالتالي يكون الاجتماع اداة من ادوات العمل لتجاوز ما يعرقل مسيرة تنفيذ الاتفاقية، ويقول الخبير القانوني صالح محمود في حديثه ل (الصحافة) عبر الهاتف أمس ان مؤسسة الرئاسة لديها صلاحيات واسعة للبت في القضايا الشائكة ووضع الحلول للمستعصي من المسائل، ويقول ان الغرض من ذلك الوصول الى رأي توافقي يساعد على تعزيز الثقة بين الطرفين ومن ثم تنفيذ الاتفاقية. ولم نتمكن من الحصول على معلومة من وزارة رئاسة الجمهورية حول كيفية انعقاد الاجتماع، وما اذا كانت هناك مواقيت معلومة يجب على مؤسسة الرئاسة الاجتماع والانتظام وفقا لها، أم لا توجد، الا انه في كل الأحوال وايا يكن المحرك للالتئام، فان مؤسسة الرئاسة مواجهة بالسؤال ( لماذا تتأخر اجتماعاتها حتى تصل الأمور مراحل حرجة)، طالما جاز ضياع كل الاجهزة الحكومية في جهاز الرئاسة، واحتكر مجلس الرئاسة _ كما يقول واقع الحال _ وضع الحلول بما يجعل بقية الأجهزة التي انتجتها نيفاشا عاجزة عن الوصول بالاتفاقية الى بر السلامة، وبما يجعل مقطعا من قصيدة دِيوَانِيبْ لكمال الجزولي ينطبق عليه وقع الحافر على الحافر وذلك حين يقول (يا واحِداً فى كلِّ حالْ، خُذنى بعِشقك ..َ تلتقينىَ ساجِداً، زدنى بعِلمِكَ .. أصطفيكَ، إنى وأنتَ البعضُ، والبعضُ المُكَمِّلُ، كيفَ جازَ، إذنْ ، ضياعُ الكلِّ فيكَ ؟!)، في اجابته على السؤال يعزو صالح محمود تأخر اجتماعات الرئاسة حتى اللحظة الأخيرة والحرجة الى سببين، الأول ان الطرفين يعانيان من انقسامات داخلية تقودها تيارات متباينة ومتصارعة داخلهما حيث لا يوجد قرار موحد مما يجعلهما لا يحرصان على الاجتماع الا بعد ان تكون اوضاعهما مهددة أو في خطر، والسبب الثاني انهما يستفيدان مما تتيحه لهما الفترة الانتقالية من الانفراد بالحكم دون رقابة وشفافية ومن الاستمرار في برامجهما دون الالتفات الى قضايا الحريات والتحول الديمقراطي والضائقة المعيشية أو حتى حل ازمة دارفور، ويقول محمود ان هذا النهج المتبع من الشريكين ترك كثيرا من القضايا غير محسومة حتى الآن بينما كان يجب حسمها منذ وقت مبكر مثل قضية الحدود المنصوص عليها في الاتفاقية حيث كان ينبغي الانتهاء منها قبل ثلاث سنوات مثلا لأنها مرتبطة بالموارد الطبيعية ويقول ان التسويف خلّف تعقيدات ما كان لها ان تحدث لو تم التعامل بجدية في تنفيذ الاتفاقية، ليعود ويقول انه اذا توفرت الارادة السياسية الكافية لدى الطرفين فان حسم القضايا العالقة ممكن وسيساعد في خلق علاقات جيدة بين البلدين في حال قاد الاستفتاء الى اتفصال الجنوب . اذن والحال على هذا النحو، اليس مطلوبا ان تكون الرئاسة في حالة اجتماع دائمة، تبت بشكل يومي في المستجد والطارئ، فاللحظات القادمة من عمر البلاد حاسمة ومفصلية باجماع الجميع، اذ تلتقي فيها أعاصير شكوك الشمال برياح مخاوف الجنوب، اليس مناسبا ان تظل مؤسسة الرئاسة في حالة انعقاد دائمة الى ان تحين ساعة الصفر في التاسع من يناير القادم حتى لا يضطر المواطنون الى الذهاب إلى مقر المحكمة الدستورية لتقديم شكوى يسندها الدستور ضد مؤسسة الرئاسة، مثلما فعل رئيس تحرير هذه الصحيفة قبل ثلاث سنوات استنادا على المادة 61 من الدستور التي تُقرأ (يجوز لكل شخص متضرر من أعمال رئيس الجمهورية أو أعمال رئاسة الجمهورية، الطعن فيها أمام : أ- المحكمة الدستورية إذا كان الفعل المُدّعي به يتعلق بانتهاك هذا الدستور أو وثيقة الحقوق أو النظام اللامركزي أو اتفاقية السلام الشامل)، وكانت شكوى الاستاذ الباز باعتباره أحد المواطنين المتضرريين من »عدم اعمال مؤسسة الرئاسة«، ولأن مؤسسة الرئاسة انتهكت الدستور ولم تأبه باتفاقية السلام الشاملة ولم تجتمع لتنفيذها وعرّضت البلاد لخطر حرب أهلية فى أبيى..