لا يختلف اثنان في أن القانون والسياسة يقعان تحت قسم العلوم الإنسانية أو ما يُسمى بالعلوم الاجتماعية كما يحلو للأكاديميين ذلك. ومهما يكن من خلاف في خارطة العلوم والفنون وتقسيماتها المختلفة وفقا للمدارس الفكرية والسياسية والاقتصادية من رأسمالية وشيوعية واشتراكية وإسلامية، فإن الإجماع قائم على تلازم السياسة والقانون والاجتماع، بل إن هناك من يدخل القانون والسياسة من ضمن علم الاجتماع، وهناك من يجعل القانون جزءا من السياسة، ومازالت جامعات عريقة في العالم في أوروبا وآسيا وأمريكا تجعل السياسة قسما من أقسام القانون، والثابت في الإسلام إن السياسة الشرعية هي جزء لا يتجزأ من أقسام كليات الشريعة والقانون في العالم الإسلامي أو حتى في الجامعات الغربية التي تعنى بدراسة العلوم الإسلامية المختلفة، وتكمن هذه المسألة في أن السياسة الشرعية التي تقوم على رعاية المصالح ودرء المفاسد هي أحد محاور ومصادر التشريع، سيما في المسائل التي لا يوجد فيها نص صريح من القرآن او السنة او القياس أو الإجماع أو أي من مصادر التشريع الإسلامي الاخرى. ومما سبق فثبوت التلازم بين الاجتماع والسياسة والقانون، هو أمر واقعي وطبيعي، وهو من النواميس الطبيعية كما يقول علماء الفلسفة والمنطق، وهي «أمر فطري» كما يقول علماء الإسلام، ودون الخوض في الفروق والاختلافات الاصطلاحية فإن أي مجتمع وطبيعته وظروفه لا بد أن تنسجم وتتوافق مع القوانين التي تطبق وتنفذ فيه، كما أن السياسة في ذلك المجتمع لا بد أن تراعي طبيعة المجتمع وأن تحترم القوانين التي تسود فيه، وبمعادلة بسيطة فإن المجتمع السليم هو ما انسجمت فيه سلوكيات وأعراف وأسس المجتمع مع القوانين والتشريعات التي تطبق وتسود فيه، وأن تكون السياسة ومن يشتغل بها على انسجام ورضاء وتقديس للأسس الاجتماعية والقوانين التي تسود ذلك المجتمع على السواء. ومن هنا تكون مقومات الدولة العادلة القوية التي تحفظ للإنسان كرامته وحقوقه. وظهرت الديمقراطية باعتبارها حكم الشعب بالشعب، وهي تقوم على فرضية نظرية تقول إن الشعب يعرف نفسه، لذا فهو يعدل مع نفسه إذا حكم نفسه، ويكون ذلك العدل باحترام المجتمع والقوانين السائدة في الشعب، كما أن الحاكم الديمقراطي للشعب باعتباره نتيجة منطقية بطبيعة الحال، سيضع السياسات السليمة على هدى المجتمع وقوانينه. وعطفاً على ما سبق فإن موت الإمبراطوريات وانهيار الدول والأنظمة عبر التاريخ يكون بانهيار تلك المعادلة، بمعنى أن الدولة تنهار اذا كانت سياسة الدولة بعيدة عن أسس المجتمعات وأعرافها وطريقة معاشها، كما أن عدم سيادة القانون واحترامه من حيث مصدرية التشريع وارتباطه بالمجتمع وعدم مراعاته للعرف الاجتماعي هو أسرع الأسباب لنهاية الدول وفسادها. ولعل أكبر مظاهر فساد القانون والسياسة الحالة التي يكون فيها رأي المجتمع وعقائده ورؤيته بعيدة عن النظام القانوني والقضائي، وعن النظام السياسي في الدولة بأن يغرد السياسيون في وادٍ ويكون المجتمع وأفراده وإرادتهم في وادٍ آخر، وهذا الأمر يكون واضحاً في القوانين المقيدة للحريات الدينية، فقد فشلت أكبر الدول وأعظم الملوك في إبعاد الناس عن عقيدتهم الدينية أو سلوكهم الاجتماعي بالقوانين التي لا تعبر عن ذاتهم وعقائدهم، وأول الفاشلين في ذلك هو فرعون مصر، فكما فشل في خفاض الإناث الفرعوني وقتل الذكور من المواليد، وهو سلوك من الدولة ضد الطبيعة والفطرة وعقيدة المجتمع. أيضا ذلك الفرعون القوي وبدولته القوية فشل في القضاء على رسالة سيدنا موسى والقضاء على دين الحنيفية «التوحيد». ومن التاريخ الحديث اكتشفت أمريكا والاتحاد السوفيتي وما لف لفهما، أنهم فاشلون في مواجهة رغبة الشعوب في العيش الكريم وفقا لطباعها وخصائصها، ففشلت الشيوعية في تنميط كل الناس بنمط وسلوك كارل ماركس في الاقتصاد. وفشلت نظرية الاقتصاد الحر في العيش الكريم للإنسانية، فصار الناس بين فقر مدقع وأغنياء أقلة في العالم كله. ومازالت العولمة التي انتشرت بعد انهيار المعسكر الشرقي هي حليفة الفشل وبعيدة عن النجاح، لا لشئ إلا لأنها جاءت بقوانين ونظم وسلوكيات لا تراعي شعوب العالم المختلفة وخصوصياتهم وسلوك مجتمعاتهم، كما أنها أهملت كل شيء في العالم إلا النمط الذي تروج له وتزعم أنه هو النمط الوحيد الذي يجب أن يسود العالم كله في كل القارات، فالعولمة تتجاهل خصوصيات المجتمع المسيحي واليهودي والمسلم والبوذي واللا ديني والهندوسي و....الخ، فكيف يكتب لها النجاح..؟! فالعولمة تتجاهل الكل وتريد الغاء كل شيء الا العولمة..!! ستنتهي العولمة، وكل من يتجاهل الآخرين سيموت غير مأسوف عليه ولو كان ظاهرة او دولة او حكومة أو حزبا أو جماعة أو قبيلة، لسبب بسيط هو مخالفة الفطرة والسنة الكونية وطبيعة الأشياء، فالاختلاف هو سنة الله في الكون، قال تعالى: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين» سورة هود الآية «119». وستظل كل القوانين واللوائح والأنظمة فاشلة إذا لم تنسجم مع الواقع الاجتماعي وطبيعة الوسط الذي تريد تنظيمه، فالقانون كائن حي يحمل الحياة بداخله اذا وجد البيئة الصالحة التي يراد له العيش فيها وتنظيمها، فهو مثل البذرة، فلكي تنمو تحتاج درجة حرارة معينة وتربة ذات خصائص محددة ودرجة ملوحة او حموضة بنسب محددة وفقا لنوع البذرة، فوفق كل ذلك فإن البذرة تحتاج لوعاء يحفظ تلك التربة، ولا شك أن حدود الدولة القطرية في زماننا هذا هي ذلك الوعاء الذي يحفظ تلك التربة، ومن باب أولي إذا فقدت الدولة سلطانها على ترابها فلن ترى للقانون او المجتمع أثراً، وتكون السياسة حرثا في البحر. وما تلك الدول التي فقدت سلطانها السياسي ببعيدة عنكم أهل السودان، انظروا للعراق والصومال وأفغانستان، وحافظوا على تراب السودان، واسمعوا للمجتمع السوداني، وليتعلم الساسة من تاريخ أجدادنا ومعايشتهم للواقع السوداني، وكم هي عظيمة حكمة الشيوخ والسلاطين والنظار والعمد والشراتي، وكم هو صالح منهجهم في التعامل مع مشكلات القبائل والعشائر عبر مئات السنين. ولا شك أن صلاحهم هذا ونجاحهم في التعايش إنما جاء من فهمهم لواقع مجتمعاتهم وفهمهم لرغباتهم الحقيقية في المرعى والزراعة والاحتطاب. ونتساءل بصراحة ونحن في محراب الوطن الجميل: كم من الأحكام الخاطئة وقعنا فيها عبر قانون مستورد لحل مشكلاتنا؟ لعل الإجابة ان تكون مرة ولا نحتاجها هذه الايام، فالمقام مقام آخر لا لمحاسبة احد، ولكن المقام مقام التصحيح والرجوع لحضن الوطن. سادتي إن السياسة والقانون هما أبناء المجتمع، فيجب أن يطيعاه ويحققا آماله وأحلامه ورغباته وتطلعاته، ونعوذ بالله من عقوق الوطن والوالدين، وكفانا استيرادا للقوانين من الخارج، فكل قانون لا يعبر عن واقع أهل السودان فهو لا يصلحهم، ومصلحتنا في إبعاده. وقديما قيل «إن القردة لا تلد غزالاً»، ويحب على الساسة في سوداننا الحبيب الابتعاد عن الكسب الرخيص، فأكبر أمل وغاية يريدها مجتمعنا في هذا الزمان هي السلام، إن مجتمع السودان لا يريد حرباً مهما كان الأمر والأسباب، فكفاية خروجاً على إرادة الشعب، فاستفتوا ما شئتم فإن التعايش في السودان لا يحتاج إلى خبير أجنبي. ٭ المحامي والأستاذ بجامعة قطر.