طالعتنا الأنباء القادمة من واشنطن عن قيام الولاياتالمتحدة بوضع خطة جديدة لرفع العقوبات عن السودان خطوة بخطوة عبر جدول زمنى مشروط بتنفيذ الحكومة السودانية لخطوات معينة مع الإستمرار فى التهديد إذا رفض السودان تنفيذ هذه الخطوات . وبحسب الخبر المنشور فى جريدة الشرق الاوسط فإن التطبيع سيبدأ فى الحال بمبادرة من الرئيس اوباما تقضى برفع الحظر المفروض على تصدير الآلات والمعدات الزراعية، كنوع من الهدية الافتتاحية أوالتشجيعية وبدون قيد او شرط من الرئيس الامريكى( فيالها من خطوة جبارة سوف تقرب السودان الى النعيم الامريكى الموعود).. ثم ينتظر أوباما حتى يأتى الاستفتاء وتعترف الخرطوم بنتائجه، فيتفضل السيد الامريكى باصدار بيان برفع الحظر عن باقى الصادرات الامريكية عن السودان، ولكن( وما أدراك ما لكن ) دون أن يشمل ذلك النفط، وذلك فى إنتظار خطوات أخرى من الخرطوم. وفى حال اختار الجنوب الانفصال واعترف السودان به، فان الادارة الامريكية لن تتعجل ، بل سوف تنتظر حتى توقع الخرطوم على حدود معترف بها بين الدولتين الشمالية والجنوبية وكذلك اتفاقية لتقسيم النفط بين الطرفين مع التعهد بعدم التدخل فى شئون الجنوب، وعندها سيقوم البيت الابيض بارسال سفير الى الخرطوم. ولكن الأمر لن ينتهى عند ذلك اذ ان العلاقات لن تبلغ مرحلة التطبيع الكامل ولن يتم الغاء كل قوانين المقاطعة الا اذا تم حل مشكلة دارفور بما يرضى الاطراف المعنية .. غير أن الغريب فى الأمر أنه حتى عند بلوغ هذه النقطة فان إسم السودان سيبقى فى قائمة الدول الراعية للارهاب، حيث قد يكون ذلك جزءا من الخطوة الاخيرة بعد حل مشكله دارفور . هذه الوصفة الامريكية التى تمت تسميتها حوافز ليست سوى تعبير عن صلف وغرور وعنجهية قبيحة وغير مقبوله، تفترض سلفا أن الهدف السودانى الوحيد يتمثل فى الحصول على رضا السيد الامريكى، باعتبار ان ذلك يمثل غايه ينبغى السعى لها فى ذاتها، وليست وسيلة للوصول إلى أهداف أخرى لتحقيق السلام والاستقرار والتنمية.. انها وصفة تقول بشكل غليظ اننا بدلا من ذبحكم على الفور فاننا سوف نفعل ذلك على خطوات ومراحل، تنتهى بالقضاء على الدولة السودانية وتحويلها الى كانتونات، أو انفلات الزمام وتحول الامر الى الفوضى . فالشروط الامريكية تطلب من السودان الاعتراف بالجنوب كدولة مستقله ( وهذا أمر لا خلاف على أنه يمثل الحد الادنى من مصالح الطرفين اذا جاء عبر استفتاء حر ونزيه وغير مزور)، ولكن واشنطن تطلب أيضا الموافقة على ترسيم الحدود بالطريقة التى يريدها الجنوبيون وليس عبر توافق الطرفين وتفاهمها.. حيث اصبح من الواضح الآن ان الحركة الشعبية عازفة عن انهاء ترسيم الحدود قبل الاستفتاء، لكى تستبقي هذه القضية بالغة الخطورة كمسمار جحا للاستمرار فى تعبئة الجنوبيين ضد الشمال باعتباره العدو الغاصب للارض، وأيضا لاستدعاء الضغوط الدولية ضد الشمال واجباره على الرضوخ لوجهة نظر الحركة الشعبية وبعض المتنفذين داخلها . الشق الثانى من حزمة الحوافز الامريكية، يتعلق بأزمة دارفور ويشترط ان يتم الوصول لحل لها بما يرضى الاطراف المعنية، ولا حظ هنا أن الحل مشروط ومرهون ( برضى الاطراف المعنية) أى حركات التمرد أو بمعنى أدق الأطراف الراعية لها ، وهو أمر يعرف الجميع انه لن يحدث ابدا، لسبب بسيط يتمثل فى كثرة الرعاة والمتدخلين وتعددهم واختلاف اجنداتهم، فضلا عن الانقسامات الداخلية فى دارفور والتى بلغت حد التشرذم .. كما أن الحديث عن رضا الاطراف المعنية هو حديث هلامى لايمكن الإمساك به أو تعريفه إجرائيا، وهو يتضمن أيضا تشجيعا واضحا لهذه الاطراف لرفع سقف مطالبها او بمعنى آخر (أن تمدد أرجلها كما تشاء ) ومن ثم فانه طبقا لهذا المسار لن تكون هناك تسوية ولا يحزنون. على الناحية الاخرى تقدم الولاياتالمتحدة حوافز من نوع آخر.. وأيضا من اجل دعم تقسيم السودان، حيث نجد خططا معدة لتقديم مساعدات بمليارى دولار لاقامة البنية التحتية للدولة الجديدة وكذلك ترتيبات امنية وعسكرية واسعة النطاق تشمل التدريب والتسليح وغير ذلك الكثير، الذى تسربت تقارير عن بعضه بينما بقى بعضه الآخر طى الكتمان. والسؤال الذى يتبادر الى الذهن هنا : اذا كانت هذه الحزمة من الحوافز تمثل هدية ملغومة كما هو واضح للقاصى والدانى، فما هو الدافع لقبولها إذن ؟ هل هو الخوف من ان ينقلب السيد الامريكى ويظهر عينه الحمراء ((على طريقة أمنا الغوله ) ويقوم بتدخل عسكرى او حظر جوى!! ولكن ذلك يطرح سؤالا آخر ما الذى يتبقى للسودان كى يخسره اذا كان التقسيم والفوضى هى نهاية المسار فى كل الاحوال! .. وعلى الناحية الاخرى هل من مصلحة الولاياتالمتحدة أن تقوم بذلك فعلا.. وهل من مصلحتها دفع الامور الى حافة الفوضى.. وهى التى لم تستطع حتى الآن ان تنزع نفسها من هزائمها فى العراق وافغانستان.. وهى التى مازالت حائرة تضرب اخماسا فى أسداس إزاء الملف النووى الايرانى . الغريب فى الأمر أن الولاياتالمتحدة كانت قد استخدمت نفس هذه الطريقة اثناء التفاوض على إتفاقية نيفاشا حيث كثُرت الوعود عن التطبيع الكامل والاعفاء من الديون والمساعدة على التنمية، ولكن أى من ذلك لم يتحقق تحت حجج وأعذار مختلفة، وهى تعيد الأمر برمته مرة أخرى وكأن الولاياتالمتحدة وسياساتها أو رغباتها قدرلا مفر منه، وهذا ما تخطئ الولاياتالمتحدة فى فهمه كل مره.. ان شعوب وبلدان هذه المنطقة من العالم لها الحق فى الدفاع عن مصالحها فى الاستقرار وفى تماسك ترابها الوطنى وفى التنمية بشكل عادل ولمصلحة كل مواطنيها دون تمييز.. وهى ليست مجرد مزرعة لمصالح السيد الامريكى وحلفائه وأذنابه وتابعيه .