مابين العام 2005 والعام 2011 يظل التاسع من يناير هو التاريخ الأكثر حضورا في تحديد مسار السياسة السودانية ورسم مستقبل الدولة سياسيا واقتصاديا ، واكثر المتفائلين الآن يعلم علم اليقين ان جغرافية المكان التي درستها الاجيال السابقة ستتغير وتتبدل الاشياء فيها على كافة المستويات وفقاً لقواعد ومآلات التحول السياسي الذي يجب ان يكون خاضعا ومحكوما بقواعد العمل. وتمثل اتفاقية نيفاشا وما تمخض عنها من قوانين السلطة التي يجب ان تؤطر لذلك في مسار السياسة اليومي، فما بين يناير 2005 ويناير 2011 تبدو خطوات سير المعادلة السياسية التي يتحكم فيها من يمكن ان نطلق عليهم (أهل نيفاشا) شريكا الحكم المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ومابينهما اتفاقية السلام الشامل ودستور السودان المصادق عليه من قبل المجلس الوطني مع وقف التنفيذ ،فالناظر لتفاصيل الحراك السياسي بالسودان والمتعمق في تصريحات شريكي الحكم يصل لنتيجة مفادها ان الدستور والاتفاقية يقبعان في حالة بيات شتوي، وان التكتيك السياسي وممارسة لعبة الضغوط من اجل تحقيق المكاسب هي الفرضية الاساسية في التعاطي مع القضايا. تكتيكات شملت كافة مراحل الاتفاقية ومازالت مستمرة حتى الآن، وهو ما يعني ان هذه التكتيكات هي من يحدد مستقبل السودان في مقبل الايام وهو ما يجعل من التساؤل حول الى اين تقود تكتيكات الشريكين الوطن بعد ان غابت قواعد السلوك القانوني ولجأ كل طرف لممارسة اللعب الخشن في عدة اتجاهات، وهو مايعني ان مصير الوطن الموحد صار في المحك بالرغم من ان جوهر الاتفاقية كان يلزم الشريكين بالعمل من اجل خيار الوحدة الجاذبة قبل ان يصل الجنوبيون لصناديق الاستفتاء للتصويت لاحد الخيارين اللذين تناولتهما الاتفاقية خلال السنوات مابين توقيع الاتفاقية ونهاية الفترة الانتقالية التي قاربت على الوصول لآخر محطاتها، لترتفع درجات المواجهة الاعلامية مابين الشريكين كل يلقي بتحمل المسؤولية على الطرف الآخر في غياب هذا الجانب، ويحمله وزر الانفصال الذي صار قاب قوسين أو أدنى حسب ما جاء في تصريحات رئيس حكومة الجنوب المنتخب وفقا لدستور نيفاشا سلفاكير ميارديت، تصريح حاول تهدئته بالتزام حكومة الجنوب بحماية الشماليين الموجودين هناك. وعلى نفس الطريق والوتيرة أعلن برلمان الجنوب المنتخب عن دعمه لخيار الانفصال وتعبئة الجماهير لذلك حسب ما جاء في الصحافة امس ،حيث قرر برلمان الجنوب، دعم خيار الانفصال في الاستفتاء المقبل ،وشكل لجانا عليا ومتخصصة لتعبئة شعب الجنوب بالداخل وفي بلاد المهجر للتصويت بكثافة لصالح الانفصال كخيار أفضل للجنوب. وقال رائد المجلس التشريعي للجنوب بشير باندي ل (الصحافة) إن برلمان الجنوب تداول في جلسة حول الاستفتاء، وقرر وفقا للوعود ابان انطلاق الحملات الانتخابية في مارس وابريل الماضيين وايمانا منه بعدم وجود ما يجعل خيار الوحدة الخيار الجاذب لشعب الجنوب، قرر ان يعبيء شعب الجنوب في جميع ولايات الاقليم وفي الشمال وبلاد المهجر ليصوتوا للانفصال كخيار افضل، وان يحقق ذلك الخيار النسب الأعلى. وأشار الى ان البرلمان كون لجنة عليا من قيادات المجلس العليا وجميع رؤساء اللجان الدائمة الى جانب خمس لجان متخصصة اعدها لتعبئة الجنوبيين بالداخل والمهجر، لاسيما بالدول التي بها كثافة اكبر اضافة لسكرتارية للاشراف، واكد ان هناك عددا من الوفود البرلمانية ستنطلق للولايات الجنوبية العشر اضافة لولايات الشمال للقيام بمهام التعبئة والتبصير بعملية الاستفتاء، وحث الجنوبيين على الحرص على التسجيل وذكر ان المادة «46» من قانون استفتاء الجنوب منحت الحق للتنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني والافراد في تبني خيار من خيارات الاستفتاء والترويج له. واوضح «بما ان الحركة الشعبية تشكل الغالبية في برلمان الجنوب ،وصلت لقناعة بأن الانفصال اصبح خيار شعب الجنوب ونحن كمجلس منتخب لابد ان نعبر عن ارادة الشعب» ولم يكن الاتجاه الآخر بمعزل عن هذا النوع من التصريحات التي تمثل خروجا على جوهر الاتفاقية وخصوصا فيما يتعلق بعملية تحقيق الوحدة ،فالمؤتمر الوطني وبالرغم من تمترس اعضائه حول خيار الوحدة والعمل من اجلها الا ان التصريحات الاخيرة حملت توجهات اخرى قادها كل من نافع علي نافع والذي قال «إن الشمال سيكون افضل في حال انفصال الجنوب عنه»، وهو امر أعاده في وقت لاحق وزير الاعلام والقيادي بالمؤتمر الوطني كمال عبيد الذي قال (إنه إذا كانت نتيجة الاستفتاء على مصير جنوب السودان هي الانفصال فإن الجنوبيين لن يتمتعوا بحقوق المواطنة في شمال السودان باعتبارهم مواطني دولة أخرى. وان التعامل معهم سيكون كحال التعامل مع الاجنبى دون التمتع بأى امتيازات ، لن يتمتعوا بحقوق المواطنة، الوظائف والامتيازات، لن يسمح لهم بالبيع والشراء في الأسواق، لن يعالجوا في المستشفيات». وهو ما اعتبرته الحركة الشعبية تصريحا غير مسؤول من المؤتمر الوطني ويزيد الوضع احتقانا مابين الطرفين ويعني من جانبه دعوة للعودة للحرب فيما يرى مراقبون ان الخروج عن النص فيما يتعلق بالأسس الدستورية والقانونية لاتفاقية السلام صار هو السلوك الاساسي للشريكين منذ التوقيع والتي ساهمت فيه مجموعة من العوامل المتداخلة تتعلق بعضها بطبيعة العلاقة مابين الشريكين او بطبيعة العلاقة مابين التكتلات المختلفة داخل كل طرف، وهو امر كان قد تناوله مسبقا في جريدة الصحافة الخبير الاستراتيجي همت مشيرا الى ان نتيجة الانتخابات قد ولدت تيارات وكيانات وتكتلات مختلفة داخل الحزب الحاكم وهو امر سيلقي بظلاله على عملية تنفيذ الاتفاقية وعلى رؤى كل طرف وهو ما اثبتته التداعيات الاخيرة. ففي الوقت الذي كان يتحدث فيه نائب الرئيس علي عثمان عن امكانية تحقيق الوحدة فيما تبقى من زمن جاءت تصريحات نافع وكمال في اتجاهات مختلفة تماما وهو ما يؤكد ما ذهب اليه سابقا ، كما ان الحركة الشعبية لم يخلُ تكوينها من هذه التناقضات التي تبدو واضحة في كثير من المواقف المعلنة وغير المعلنة في التعامل مع الشريك و الخصم في نفس الوقت ،وهو امر وبحسب افادة الدكتور حمدنا الله عبد الحافظ استاذ العلوم السياسية بجامعة النيلين كان له دور كبير في عملية التعاطي مع الاسس القانونية للاتفاقية وقاد كل طرف للانطلاق من حتمية تحقيق مصالحه الذاتية والحزبية وخلق مجموعة من التجاوزات في تنفيذ الاتفاقية، وهو امر ساهم فيه التناقض الواضح مابين توجهات الشريكين ورؤيتهما للقضايا مع غياب حالة النضج السياسي في التعامل مع الظروف الموضوعية وايجاد المعالجات السياسية للقضايا وسيادة نمط الهتافية التي ساهمت بدورها في زيادة الشقة مابين الشريكين ودخول القوى السياسية الاخرى دخولا لم يكن ايجابياً في كثير من جوانبه وحتى القواعد القانونية التي كان يجب الاحتكام اليها شهدت حالة من الشد والجذب واخذت كثيراً من الوقت بغرض اجازتها ،وهو امر انعكس على التعامل بها لاحقا والالتزام بموجهاتها . وتناول حمدنا تأثيرات الجانب الخارجي ونمط اتجاه التحالفات مابين الشريكين ودوره في هذا الجانب ،وقال ان هذا الامر او الخروج عن القانون ستكون له نتائج سالبة على تنفيذ ما تبقى من الاتفاقية وخصوصا فيما يتعلق بمسألة الاستفتاء والتي دخلت هي ايضا سوق المزايدات السياسية مابين الجانبين في امر كان يجب ان يتم التعامل معه في اطار المعالجة القومية، لانه يتجاوزهم ليؤثر على مستقبل وطن بحاله. وقال ان هذه المزايدات من شأنها التأثير على قبول النتيجة التي يأتي بها التصويت ،وهو امر يفتح الباب لاحتمالات عودة الصراع وربما تجدد الحرب التي بدأت تلوح في أفق حسم قضايا مابعد الاستفتاء خصوصا فيما يتعلق بترسيم الحدود والمواطنة وأبيي. ووصف ما يحدث الآن هو محاولات مستميتة من الجانبين لتحقيق مكاسب سياسية وحسب سيقود لمزيد من الاحتقان والنزاع وربما يهدد قيام الاستفتاء وفقا لمعايير النزاهة والشفافية. ما قال به حمدنا حدث من خلال ما جاء في المؤتمر الصحفي للمؤتمر الوطني فيما يتعلق بقضايا الاستفتاء وفي تصعيد جديد للاحداث حيث اشترط تنفيذ خمسة شروط لإجراء الاستفتاء والاعتراف به، وانه لايمكن ان يقوم الاستفتاء من غير تنفيذها مشيرا الى أنها منصوص عليها في اتفاقية السلام والدستور الانتقالي، وقال إنه حال عدم تنفيذ تلك الشروط فإن لديه خطة ورؤية للتعامل مع الوضع حينها، وطمأن الجنوبيين في الشمال بأنه لن تطالهم أية مضايقات طيلة الفترة الانتقالية اذا حدث الانفصال داعيا الحركة الشعبية للالتزام كذلك للشماليين في الجنوب. وقال الأستاذ حاج ماجد سوار، أمين التعبئة السياسية بالمؤتمر الوطني، في مؤتمر صحفي امس حول الاستفتاء، ان الحركة الشعبية لم تكن يوماً جادة في قضية الوحدة، مشيرا الى ان الجيش الشعبي لم ينفذ في بند الترتيبات الامنية سوى «26%» فقط مقابل القوات المسلحة التي نفذته بنسبة «100%»، واصفاً ذلك بالاخلال بالاتفاقية ومهدد أولي للاستفتاء واضاف «لإجراء استفتاء لابد ان يكمل الجيش الشعبي انتشاره بحسب ما حددته اتفاقية السلام بنسبة «100%» واذا لم يحدث هذا سيؤدي الى التشكيك في نتيجة الاستفتاء وعدم الاعتراف بها»، وشدد لإجراء استفتاء في مواعيده حر ونزيه ان تتاح حرية العمل السياسي بالجنوب وان يفتح أمام كل السودانيين للتبشير بخياري الاستفتاء بمثل ما هو متاح في الشمال، وان يرفع الجيش الشعبي يده من العمل السياسي هناك، وقال «في وجود الجيش الشعبي المواطنين سيصوتوا تحت تهديد السلاح، واضاف جزء من شروطنا ان يكون التصويت للاستفتاء في صندوق واحد وليس صندوقين كما يطالب بعض قادة الحركة الشعبية مطالبة المؤتمر الوطني المغلفة بالالتزام بالقانون والعمل وفق ما جاء فيه من اجل قيام الاستفتاء في الجنوب تكتيك جديد سيقابله تكتيك آخر من الطرف الآخر لانجاز نفس الغرض وهو امر تكرر في خمس سنوات وربما يستمر في قادم المواعيد ليؤكد على فرضية تنفيذ نيفاشا التكتيك قبل القانون.