كانت حالة استثنائية من حالات الاحتفال بالمعرفة في السودان، اذ احتشد أهل كورما بالعاصمة الاتحادية في تناغم أسري جمع الأفراد والأسر بامتداداتها والاصهار والاصدقاء والمجموعات المهنية والفنية ومحبي المعرفة والخير للوطن، احتشدوا مساء السبت الماضي الخامس والعشرين من سبتمبر بقاعة الصداقة بالخرطوم للاحتفال والاحتفاء بمن حصلوا على درجة الدكتوراة في السنوات القليلة الماضية من ذات المنطقة، وقد بلغ عددهم احد عشر عالماً وامرأة مميزة. لقد شغل الحضور القاعة الكبرى للقاعة وكل الساحات الخضراء امام المبنى الرئيسي، وقيل بثقة ان الحضور قد تجاوز العشرة آلاف وكان الاطفال والنساء أكثر من سعدوا على نحو خاص بحميمية المناسبة، وكانوا الاكثر تطلعا لمستقبل آمن ومستقر ومزدهر ليس لكورما ودارفور وحسب بل لكل القرى والدساكر والمدن والاقاليم التي تشبه كورما ودارفور. لعل القارئ سيدرك القيمة الأعلى لتجمع أهل كورما وهم يكرمون مواطنيهم من المتفوقين علمياً عندما يعرف ان كورما نفسها عاصمة محلية لمنطقة قوز واسعة تتخللها أودية عديدة وتحيط بها الجبال من كل جانب، ثم انها تقع شمال غربي الفاشر العاصمة التاريخية لدارفور. على صعيد آخر فان اهل المنطقة مزارعون وتشمل قائمتهم في الزراعة الدخن والذرة والسمسم في القيزان والويكة والتمباك والقصب والبطيخ في الوديان. اما اسم المنطقة فمثل كثير من اسماء الاماكن في دارفور ترتبط بالاساس على قدرة الانسان على تجاوز التحديات والصعوبات وكذا الحال مع كورما، اذ تحدى الآباء المؤسسون للمنطقة العطش وصمدوا لقسوته حتى عثروا اخيرا على مورد قريب للماء، وفرحوا بذلك فرحاً طاغياً وعبروا عن ذلك بلغات المنطقة فالذين تحدثوا بلغة الفور كرروا لفظ كورو Koro أي الماء، اضافة الى لفظ ماء العربية، وهكذا نحت من اللفظين اسم المنطقة كورو-ماء ومع الزمن صارت كورما المعروفة اليوم، ربما تكون هناك مداخل اخرى للتسمية بيد ان هذه التسمية المنحوتة من لغتين ذات دلالة ثقافية اعمق اكدت على الوحدة بقاعدة التنوع العرقي واللغوي، وعلى أرض مشتركة تأسست مصالح اقتصادية اجتماعية جديدة. من بين ما يجعل كورما احتمالا راجحا للسلام والتنمية والرفاه دارفورياً، انها كانت الخلفية الاقتصادية لازدهار مدينة كوبي احدى العواصم التجارية تاريخيا في بلاد السودان الممتد من المحيط الاطلنطي غربا الى البحر الاحمر شرقا، فترة ما قبل الحالة الاستعمارية وقد تكالبت اوروبا على افريقيا في اعقاب مؤتمر برلين 4881 - 5881م كانت كوبي التاريخية منطلق ما كان يعرف ب (درب الاربعين) الذي ظل يربط افريقيا الغربية والاستوائية بدول البحر الابيض المتوسط والحجاز وينتهي الدرب الى مدينة اسيوط بمصر بعد اربعين ليلة من السير المتواصل للابل سفائن الصحراء. لقد كانت كوبي الميناء البري الذي تعرض فيه منتجات الاقليم الافريقي الاوسع ومنها تصدر الى الشمال الافريقي واوروبا كل منتجات السافنا الزراعية ومنتجات خط الاستواء بما في ذلك سن الفيل والابنوس وريش النعام. هكذا على خلفية التعدد العرقي والتنوع الثقافي والتجاري جمعت كورما اعراقاً افريقية من اقصى الغرب الافريقي الى سودان وادي النيل، واصبحت المنطقة قاعدة للانفتاح المعرفي ومنبرا تاريخيا للتثاقف، وفيها تكون مهد يشحذ الهمم ويطور الحاجة الى توطين المعرفة بالمنطقة. ولعل الاحتفال الذي جرى عصر السبت الماضي، ما هو الا دورة من دورات استعادة المبادرة للمنطقة في ظل التحولات الجديدة التي تشمل الفيدرالية والديمقراطية والتنمية بشقيها الثقافي والاقتصادي. لعل أجهزة الاعلام المختلفة قد نقلت تفاصيل الاحتفال بما في ذلك مشاركة مسؤولين رفيعي المستوى في الدولة، بيد انه وعلى سبيل التوثيق فان اصدارة (وسام النور) وهي اصدارة خاصة تم توزيعها يوم الاحتفال اوردت أسماء الذين تم تكريمهم من على منصة قاعة الصداقة في لوحة خاصة، في وقت ناشدت فيه الاصدارة طلاب المنطقة - وكل الطلاب - السير قدما على ذات طريق التفوق. لقد أوردت الاصدارة أسماء: الصادق آدم عبد الله سبيل (دكتوراة القانون)، اقبال محمد ابراهيم سليمان (دكتوراة العلوم التربوية)، جمال عبد الرازق سليمان جمعة (دكتوراة السكان والتنمية)، مالك ادريس آدم (دكتوراة الفيزياء)، عمر ابراهيم سبيل عثمان (دكتوراة الجغرافيا)، عبد الله آدم محمد نافع (دكتوراة اللغة الانجليزية)، علي بشر عبد الله محمد (دكتوراة التربية)، عبد الله محمد بدوي محمد (دكتوراة)، عبد الله تبن احمد محمد (دكتوراة العلوم)، حسب الدائم هدى حسب الدائم (دكتوراة علم المواد)، صلاح الزين محمد (دكتوراة التخطيط)، يعقوب ابكر آدم (دكتوراة علوم حاسوب). لقد جاء الاحتفال بحملة الدرجات العلمية الرفيعة من منطقة كورما مذكرا للوجدان الدارفوري في محنته الراهنة، عما يمكن ان يقدمه اهل المعارف الفلسفية والتطبيقية في معالجة الازمة في جذورها؟ ذلك ان العلم كقول الامام الشافعي ليس ما حفظ (...العلم ما نفع)، مع ذلك فان العلم لن يجدي او ينفع شيئا اذا لم يكن المناخ المفضي الى النفع متوفراً، ولن يتوفر ذلك المناخ الا باستكمال العملية السلمية على نحو يجعل العلم قائداً ورائداً للتنمية والاستقرار والسلام القابل للاستدامة، وهكذا سيجد حملة الدرجات العلمية الرفيعة في وغير كورما بدارفور امام طريقين لا ثالث لهما: طريق الامتثال للامر الواقع والاقبال على الامتيازات المعرفية وكفى، او طريق المساهمة في تحمل استعادة المبادرة للمنطقة في سباق بناء عادل للسودان في إطار فيدرالي يحفظ الحقوق والكرامة للسودانيين، كل السودانيين. ايهما سيكون اختيار من هم على قائمة الشرف والتكريم؟. على الصعيد الشخصي والاسري كان الاحتفال يمثل عندي صدى ذكريات جيل أبي.. كان - رحمه الله تعالى - مدرسا في اول مدرسة تأسست في كبكابية في اربعينيات القرن الماضي، وعندما قررت ادارة التعليم تأسيس مدرسة مماثلة في كورما، بعث اهل المنطقة وفدا الى كبكابية لاستمالة (شيخ آدم) كما كان يطلق عليه المعلمين في ذلك الزمان، ليصل وسط أهله ومواطنيه فالمنطقة بامتداداتها تمثل عمقا اسرياً بكونه من التنجر الكيراتي. بعد موافقته ذهب مؤسساً للمدرسة وان لم تطل اقامته لاختلافه العميق على سياسات المفتش مور Moar مفتش كتم المشهور. لقد أدى ذلك الاختلاف ضمن عوامل أخرى الى تعقيدات جوهرية في حياته فيما بعد، الا ان روحه لتزداد راحة في مثواه، بان ما كان يضطلع ويتطلع اليه قد حدث في الاجيال التالية. لقد نمت كورما معرفياً وعلمياً، دون ان تفقد انتماءاتها الثقافية الموروثة، او تلك الانسانية الفكرية المكتسبة بالتواصل والتعليم وتوطين المعرفة. واليوم عندما يعلن مجتمع كورما بكل مكوناته أن يحتفل بتمجيد المعرفة وضرورتها للمستقبل في العاصمة الاتحادية، ويحتفل بترفيع القيمة للعلماء والباحثين والدارسين فان ذلك يعني محاولة اجادة لاحياء الماضي التليد والتعلم منه والتواصل به نحو الآخر الوطني في سياق تطوير تجربة الفيدرالية السودانية القادمة. كما انه يمثل جهود اجيال من العطاء تصب في خاتمة المطاف في دعم العملية السلمية لدارفور، والاعداد المبكر لبناء قاعدة تنموية راسخة، وهكذا عندما تكتمل تسوية وفض النزاع في دارفور بين مكونات الاقليم الاثنية والاجتماعية سلاما، وبين الاقليم والحكومة الاتحادية سلاما اشمل بعدالة اقتسام السلطة والثروة في إطار فيدرالية عادلة ومميزة وسلام قابل للاستدامة، فان اهل العلم والتجربة المهنية هم من سيقومون بقيادة التجارب الجديدة الى شواطئ السلام والتنمية والديمقراطية وما قام به مجتمع كورما اليوم وهي منطقة شهدت النزاع المسلح في أوجه وما يزال ولكن بوتائر أقل اليوم، ما قام به يمثل طلائع جهود المجتمع المدني الدارفوري، في صنع السلام وحفظه وتوجيه قدراته نحو البناء وتنبيه قوى السلام بمبادرة والشراكة لتجاوز النزاعات.