انتظمت فرنسا منذ بضعة شهور والى يومنا هذا تظاهرات حاشدة نظمتها نقابات العاملين...من المفارقات أن سبب هذه التظاهرات هو مناهضة قانون جديد يرمى لرفع سن التقاعد من 60 عاماً الى 62 عاماً . وجه المفارقة يكمن فى أن العاملين فى السودان يجاهدون ويناضلون لتأخير سن التقاعد بضع سنوات بينما أهل فرنسا يستعجلون التقاعد . السبب ببساطة أن المعاش هناك ( معاش ) بالمعنى الحرفى للكلمة ، فأرباب المعاشات من الفرنسيين وسائر الاوربيين الغربيين يعتبرون التقاعد حقاً مشروعاً يكفل لهم العيش الرغيد ، يتحللون بموجبه من سنوات طوال أنفقوها فى عمل جاد ومضنى ويتفرغون للإستمتاع ببواكير سنوات الشيخوخة...تراهم أهم الزبائن فى برامج الرحلات الترويحية التى تنظمها وكالات السفر ويحظون بالضمان الصحى طوال عمرهم المديد ،بينما هنا فى السودان يُعتبر الخروج للمعاش مع الأسف خروجاً من ( جنة) الميرى وهو بمثابة وضع القدم فى أول درجة من سلم التسول ! الإحالة للمعاش فى بلادنا تعنى التشرد وقطع الارزاق وإذلال الأسرة بكاملها ، لذلك لا عجب أن عمدت الإنقاذ لاسستعمال هذا السيف الباتر فى ضراوة وبأس يتنافى مع كل القيم الدينية والأخلاقية ، وراحت نصال ( الصالح العام ) تطيح بالرقاب فى توحش وبربرية لم يشهدها السودان من قبل تاركين فى كل بيت حسرة وعبرة ودمعة وأكف ضارعة تشكو للواحد القهّار ، بينما مواكب المنتفعين والانتهازيين تجوب الشوارع وهى تهتف ( هى لله ..هى لله ..لا للسلطة لا للجاه )!! آن للحكومة أن تكف عن النظر للمعاش كأنه منحة أو صدقة أو عطية مزين تجود بها على ( أبناء السبيل ) من قدامى المعاشيين ، فتلك هى أموالهم التى استودعوها خزائن الحكومة فى وقت كانت فيه الجنيهات كالذهب ، واليوم تماطل الحكومة فى ردها بجنيهات من الورق البائس لا تكفى حتى لشراء ( النور ) فى بيوتهم المعتمة ، بل راحت تتاجر بها فى الصناديق الإستثمارية دون إستئذان أصحابها ودون التفضل عليهم بفتات من ربح تلك المضاربة غير المشروعة . كتبت من قبل عن الفيلد مارشال مونتقومرى القائد البريطانى الشهير فى الحرب العالمية الثانية وبطل معركة العلمين الشهيرة فى غرب مصر إذ له قصة مع ( المعاش ) ، فقد تقاعد الرجل وانزوى فى قرية فى الريف البريطانى وهو ينعم بالمعاش الوفير وبالإحترام بحسبانه أحد أبطال البلاد القوميين . كان معاشه يصله بالبريد بإنتظام كل شهر الى باب بيته،وفى ذات يوم تأخر معاشه عن الموعد المحدد بسبب إضراب عمال البريد فى بريطانيا ، فما كان من الرجل إلا ولبس ملابسه العسكرية المطرزه بالنياشين والاوسمة الرفيعة وقصد مكتب البريد فى قريته .ركل الجنرال الباب بحذائه ودخل شاهرا ًسلاحه فى وجه الموظف المرعوب وهو يقول له فى برود حاسم : (يجب أن تعلم أن هذا المعاش هو حق لى إكتسبته بعرقى ودمى فى المعارك التى خاضتها بلادى ، وهو حق لن تستطيع قوة فى العالم أن تؤخره أو تحرمنى إياه..سوف أقتلك وأقتل كل من يحول دونى وهذا الحق )..وكان أن تسلم الرجل معاشه فى بضع دقائق . من المؤسف أن صفوة قدامى المعاشيين فى بلادنا من قضاة المحكمة العليا والسفراء وكبار ضباط الجيش وغيرهم الذين تقاعدوا قبل سنوات طوال ولا يتجاوز معاشهم المائتى جنيه...من المؤسف أنهم لايستطيعون أن ينتزعوا معاشهم على طريقة الفيلد مارشال مونتقومرى لأن الجنيهات الشاحبة الهزيلة التى يتقاضونها لا تستحق مثل تلك المغامرة !