تابعت الخطوات المختلفة التي افضت الى مؤتمر كل القادة والاحزاب الذي دعا له وخاطبه الفريق سيلفا كير ميارديت رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان النائب الاول لرئيس الجمهورية رئيس حكومة الجنوب في الفترة ما بين 31 51 اكتوبر الجاري بالعاصمة التوأم جوبا. كنت ارقب ايضا المقاربات الجنوبية الجنوبية والتي من بينها عودة الفريق جوزيف لاقو الى جوبا مستشارا لحكومة الجنوب، والتصالح النادر بين سيلفا كير ولام اكول ضمن مداخل للتراضي الجنوبي الجنوبي. واليوم بخلاصات المؤتمر دخلت قوى العمل الفكري السياسي الجنوب سودانية في تضامن عريض قد يجعل من الجنوب كتلة دستورية عقب الاستفتاء في مطلع العام المقبل، في حالتي الوحدة او الانفصال، كتلة تقبل بالتنوع والديمقراطية والتعايش المنتج في الواقع السوداني الراهن انسانيا وسياسيا واقتصاديا. كان خطاب سيلفا كير مليئاً بالعاطفة والامل في تجاوز الصعوبات وحين رحب باتفاق السلام الشامل باعتباره الاساس الحيوي للسلام استخدم متن الاتفاق لدعوة المؤتمرين للم الشمل والتراضي من اجل السلام، فيما عرف المؤتمرين بحصيلة جولته الخارجية مؤكدا ان مجتمع الجنوب ديمقراطي وفق بنود الدستور الانتقالي، كما وضع امام المؤتمرين مسؤولية الخروج بمبادئ عامة لتسهيل العملية السلمية بخيارات مفتوحة. اما اذا ما وقع الانفصال فانه من المصلحة للجنوبيين ان تكون دولة الشمال ايضا قادرة وذات جدوى تماما كدولة الجنوب، وهكذا برغم القضايا التي ما تزال عالقة والتي قد تعوق الاستفتاء فانه دعا الاطراف العمل بحسن نية لتجاوزها وتطوير التفاهم حولها. لقد توقفت طويلا في خطابه لدى اشارته بوضوح ان الجنوبيين لا يريدون ان تكون ابيي منطلقا سياسيا للحرب بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني مجددا، ولاعتقاده انه لا بديل للحرب اذا ما تم تعويق تنفيذ بروتوكول ابيي والاتفاقات اللاحقة بشأنها، طلب بوضوح اكبر انه «واجب علينا كاطراف ان نعمل معا لوضع الامور سلميا في سياق الاحترام المتبادل وحسن الجوار». ان الاحترام المتبادل وحسن الجوار عرض يرحب به الشمال عموما ومواطنو ابيي من قبائل المسيرية على وجه الخصوص، وبوسعهم التفاعل معه في الظروف الطبيعية، ولكن على خلفية الحالة الاستثنائية التي عاشتها المنطقة هل تستطيع التفاعل السلس مع مقررات مؤتمر كل الاحزاب الجنوب السودانية؟ هل بوسع السودانيين من جذور مسيرية ان يجدوا العون الكافي لتكييف اوضاعهم بما يتسق ووجودهم الاقتصادي الكبير في المنطقة بتفاهمات عميقة مع قوى الفعل الاجتماعي الاقتصادي السياسي في الجنوب؟ او اي قوى وطنية اخرى؟ اذا ما نظرت قبائل المسيرية بعدالة الى ذاتها، فانها مجموعات سودانية اكتسبت مشروعية المواطنة في هذه المنطقة بهجرات تاريخية لم تخل من عنف على غيرهم بعض الاحيان. على انه وبعد ان اكتملت محددات وجودهم الجغرافي صاروا جيران مميزين للدينكا والقبائل الاخرى ممن حولهم، وتدريجيا اشتهروا في الحياة السودانية بالشجاعة والكرم، انهم بالشجاعة اضحوا ضمن قوى حفظ الامن والامان كيان السودان المعاصر. كانت مساهمات المسيرية في المهدية واضحة في الانطلاق بالدعوة الى مرحلة الدولة والعمل في حمايتها بعد التأسيس عسكريا وامنياً، دون ان تخلو تلك المشاركة من حكمة حافظت على التراث الانساني والثقافي لقبائل المسيرية. في نهاية عشرينيات القرن الماضي ومع تطبيق القوانين الادارية القبلية في ظل الادارة البريطانية تأكدت حدود ديار المسيرية كما هو الحال مع القبائل الاخرى، وصارت ديارهم بوضوح في اقليم كردفان مع امتدادات في اقاليم اخرى. اشتهرت ايضا ديار المسيرية بالكرم، واصبحت الاخبار تتناقل طرائف كرمهم اذ حكى في فضيلي جماع قبل اكثر من ثلاثين عاما قصة احدهم في بادية المسيرية، يدعو الناس الى طعامه واذا ما اراد الضيف المدعو التراجع عن الاكل، يصر الرجل ويحلف ويختم بحزم «بي ام النوناية.. تاكل..» وام النوناية هي زوجته التي يعتز بها. كما اشتهر عن الناظر الراحل بابو نمر وكبار القبيلة انهم اهل كرم ورجاحة عقل، ومما حكي عنه ان ضيفا من البادية زاره وبعد الغداء والشاي والونسة وقبيل المغادرة سأل الرجل وهو مطمئن الناظر عما اذا كانت زوجته هي من صنعت الطعام وأعدت الشاي؟ عندما جاء رد الناظر بنعم، قال الرجل انه ينوي زواجها اذا ما رغب عنها مستقبلا. لم يغضب الناظر بل بذات الجدية اكد له قائلا انه حالما يفكر بالطلاق سيفيده بالخبر قبل اعلانه، وهكذا اجتمع في بابو الكرم والاريحية وهو حال الشيوخ الذين منحوا ايان كينسون بنوتهم بعد ان قضى بينهم مدة طويلة باحثا انثربولوجيا في تراثهم الثقافي والقبلي. بتلك السمات الخلقية تواصل المسيرية مع الدينكا في اطار البيئة والمهنة المشتركة، ولكن لسوء حظ المسيرية بدل ان ينخرطوا في التأكيد على حقوقهم المشروعة مع الدينكا في مواجهة مركز السلطة السياسية الاقتصادية، سمحوا لقوى المركز ان تستغل شجاتهم النادرة ضد شركائهم في البيئة الرعوية في اطار معارك الهوية واكتمل تشويه صورة المسيرية في فترة التسعينيات بمشاركة الشباب غير المدرك في حملات انتهاك حقوق اهل الجنوب تحت مسميات مختلفة، وهكذا اصبح المسيرية ضمن قوائم انتهاكات حقوق الانسان عالميا. عندما جاء الوقت لتسوية وفض النزاع المسلح في الجنوب لم يجد المسيرية من يقف معهم، في الوقت الذي وجد فيه جيرانهم الدينكا الفرصة واسعة لاستعادة مبادرتهم في المنطقة تحت مظلة الحركة الشعبية لتحرير السودان، ابتعد المؤتمر الوطني عن المسيرية ونأى بنفسه عن مساندتهم عندما صارت الحقائق جلية والحقوق معروفة وفق نصوص اتفاق السلام الشامل والدستور الانتقالي والقانون الدولي وضمانات دولية. في هذه الحالة ماذا ينبغي على المسيرية عمله؟ هل يدخلوا الحرب مجددا؟ مع من؟ وفي مواجهة من؟ ومن اجل ماذا؟ ضمن الامثال المشهورة وسط المسيرية، مثل يضرب للمرء الذي يختار بديلا فاشلا ينتهي بصاحبه وفي كل الاحوال الى نتائج فاشلة وان تعددت المحاولات ويصور ذلك بالقول، مثل (بيضة ام كتيتي تقلها تقتل امك، وتخلها تقتل ابوك) ...! وبيضة ام كتيتي في الحالة الراهنة هي التفكير او الاعداد للحرب، فأيا كانت استخدامات بديل الحرب فانه ينتهي بالمسيرية الى الدمار، (قتل الام، قتل الاب).. اذن ما هي البدائل المحتملة..؟! عاشت منطقة المسيرية والدينكا ظروفاً مشابهة، وتحولات اجتماعية اقتصادية عميقة بعد مد خط السكة الحديد في الستينيات حتى واو او دخول صناعة النفط مؤخرا، وكلا المجتمعين يجد المراقب لهما مجتمعات مماثلة في الخليج العربي، وفي افريقيا الشرقية، لعل مجتمع المسيرية ورد نمط التحول الذي ينتظره عندما يكتمل في الوصف الرفيع للتحولات على المستوى الشخصي في بوادي الخليج في مجموعة (مدن الملح) للقاص عبدالرحمن النصيف وملامح ذلك عندما احتج احد المسيرية قائلا: (ليه البير في المجلد والتبريك في الجيلي)...؟! اشارة الى مناطق اكتشاف البترول وبعد مناطق التصفية، ومجتمع الجنوب ليس افضل حالا عندما تنهمك الشركات الضخمة في التنمية وبناء الطرق والجسور، ولا احد يهم بالانسان العادي كما حدث لابطال انقوقي في رائعته (بتلات الدم الحمراء).. فمجتمع المسيرية ومجتمع الدينكا مواجهان بذات المصير المجهول ، اذا ما عادت حروب الهوية الى المنطقة مجددا وتم استخدام المجموعتين في نزاعات لا مصلحة لهما فيها.. ان نمط القيادة في مجتمع المسيرية يواجه تحديات حقيقية ، وليس امامه وقت طويل قبل تسليم القيادة لقوى الحداثة والملتزمة بقيم الوطن الجديدة في اللا مركزية والديمقراطية والقبول بالتنوع والاستثمار في الموارد تنمويا ، إن المسيرية لديها درجات متفاوتة من قيادات على الصعيد الشخصي او المؤسسي تحترم تقاليد التراث الثقافي الاجتماعي بما في ذلك الادارات الاهلية وتستطيع الدخول في حوارات بينية منتجة من اجل السلام الاجتماعي مع الذات والجيران الدينكا وغيرهم ومتابعة حوارات التأكيد على الحقوق التنموية ، من خلال الهياكل الفيدرالية ذات الحاجة الماسة الى القدرات والكوادر والتأهيل.. على مدى ثلاثة عقود ظللت اتابع تطور انماط جديدة للقيادة في مجتمع المسيرية، وقد بدأت بمقولة الراحل بابو نمر عندما قال للنميري لدى زيارته منطقة المسيرية بعد حل الادارة الاهلية (1970م)، (يا سيد الرئيس، انا كنت متأكد ان الادارة الاهلية ستفقد مكانتها من يوم دخلت السكة حديد بابنوسة)..! لقد عايشت انماطاً من القيادات للمسيرية منها النقابية، والفكرية الثقافية والاكاديمية ، والسياسية والاهلية المجتمعية والمدنية وذوي الخبرات الدولية . هذا التنوع من القيادات وفي هذه المرحلة الحرجة من تاريخ المنطقة والسودان ربما عليها التنادي لملتقى مدني جامع في اقرب وقت لإعادة تعريف قضية المسيرية في الاطار ويمكن ان يعقد حتى ولو في خارج السودان ثم اعادة تقديم المسيرية كسودانيين مهما ثار جدل حول ادوارهم المحلية والعمل على ابعادهم من البدائل الفاشلة مثل بيضة ام كتيتي والحرب.. ويبقى ايضا على المسيرية مسؤولية اخرى، تقديم توضيحات حول العنف الواسع الآثار الذي شاركوا فيه ضد الدينكا ، خاصة وان المسيرية لم يكونوا طرفا في النزاع المسلح بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان؟ ايضا ما هي مقترحاتهم للمضي قدما وتجاوز الماضي؟! وكيف بوسعهم تطوير مؤسستي الشجاعة والكرم في اطار السمات السودانية ، انها مجموعة تملك فرصاً للمساهمة في بناء سودان لا مركزي ديمقراطي..!